تحديات حرب المدن وإسقاطها على الوضع في السودان
مع التحولات الكبرى التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين حينما اتجه البشر الى تشييد المدن وبناء المراكز الحضرية الضخمة والسكن فيها والتقدم العلمي والتقني الهائل الذي ارتبط بالحياة المعاصرة بشكل لا تنفصم عراه عن حياة البشر في المدن.
وعليه فقد برزت هذه المراكز كمسرح محتمل للعمليات القتالية فاندلاع الحرب في المراكز الحضرية المأهولة بالسكان بات هو السمة الغالبة للأنشطة القتالية في العقود الأخيرة.
وتؤكد على ذلك النمط العديد من المشاهد التي جرت في السنوات الأخيرة في بعض مدن العالم من بغداد إلى حلب والموصل وصنعاء ومقديشيو ودونيتسك وخاركيف وماريوبول وأخيرا الخرطوم و نيالا والأبيض و الجنينة ومدني.
تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر “أن المدن والبلدات ستظل ساحات قتال رئيسية في النزاعات المسلحة المستقبلية” .
و في مقابل الحصار والأنفاق والأشراك الخداعية والقناصة،برزت الطائرات المُسيرة والحرب الرقمية في الوقت الراهن في شكلٍ جديد من النزاعات في المناطق الحضرية كما نرى في الحرب الروسية الاوكرانية وقبلها حرب أرمينيا وآزربيجان “ولسوء الحظ، يبدو أن الحرب الرقمية أو السبرانية ربما تكون هي الخيار الطبيعي المفضل الجديد في قادم السنوات .
ينجم عن حرب المدن خسائر بشرية لا تُحتمل في المراكز الحضرية، حيث تقع الأهداف العسكرية والمدنية في المنطقة ذاتها وربما من مسافة صفرية في كثير من الأحيان. ومن المرجح أن تصيب الأسلحة المتفجرة الثقيلة مثل القنابل الكبيرة والقذائف والصواريخ وقذائف الهاون والمدفعية والطيران ، الهدف العسكري، لكن أثر الانفجار الواسع الذي يصيب منطقة الانفجار يأتي في كثير من الأحيان على الأخضر واليابس أيضًا. كما يلحق أضرارًا شديدة بالمدنيين مسببةً وفيّات وإصابات وصدمات عصبية بالذات وسط الأطفال والنساء (Traumataization) .
يؤدي القتال في المناطق الحضرية “في كثيرٍ من الأحيان إلى تدمير البنية التحتية الحيوية اللازمة للإمداد بالخدمات الحيوية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، والرعاية الصحية والغذاء والتعليم أو إلحاق الأضرار بها”.
إن سكان المناطق الحضرية الذين يعتمدون في قوتهم اليومي على دعم البنية التحتية والسلع والخدمات التي يقدمها الآخرون، هم بطبيعتهم معرضون لاضطرابات في الأسواق وانقطاع الإمدادات. ويؤدي انقطاع خدمة واحدة في كثيرٍ من الأحيان إلى انهيار العديد من الخدمات الأخرى(سلاسل الخدمات) إذ يؤدي إلى تفاقم المخاطر المحدقة بالصحة العامة ووسائل كسب العيش ، ما قد يقود بدوره إلى نزوح كبير لمجموعات من السكان. وقد يؤدي القصف بالقنابل والمدفعية إلى إلحاق أضرار لا يمكن إصلاحها بالمستشفيات، والحيلولة دون وصول سيارات الإسعاف إلى الجرحى، وتعطيل الإمدادات الطبية. كما يتضرر العاملون في المجال الطبي، شأنهم شأن المدنيين، بشكل مباشر كما أنهم قد يجبرون على ترك وظائفهم والفرار كما نلاحظ ذلك في حرب الخرطوم التي اندلعت في منتصف أبريل 2023 بهجوم قوات الدعم السريع المتمردة على مركز العاصمة الخرطوم وبعض المدن الأخرى حيث تعرضت المستشفيات والجامعات ومراكز الإمدادات الطبية الدوائية والمصارف ومراكز الاتصالات ومحطات المياه والكهرباء والوقود للنهب و التخريب والاحتلال ، وهوجمت دور العبادة(كنيسة ماري جرجس بأمدرمان) . ولاذ جميع العاملين في الرعاية الصحية بالفرار. لفترة من الزمن، لم تكن هناك رعاية على الإطلاق الأمر الذي بات يهدد ملايين السكان بالموت البطئ خاصة أصحاب الأمراض المزمنة كمرضى الكلى و الأورام.
في الأحياء السكنية التي احتلها المتمردون وباصرارهم على تحويلها إلى أهداف عسكرية وجبهات قتال مفتوحة أصبح من الصعب العثور على أساسيات الحياة – من المياه والغذاء والرعاية الصحية والوظائف والتعليم والسكن اللائق- . “غالبًا ما يضطر الناس إلى الفرار من ديارهم، ما يقلب حياتهم رأسًا على عقب ويعرضهم لمخاطر أكبر، مثل العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، حيث يفقدون سبل عيشهم وشبكات الدعم. وفي كثير من الأحيان، يقع على عاتق المجتمعات المحلية مسؤولية مساعدة النازحين بينما قد يعانون هم أنفسهم أيضًا من آثار النزاع”.
وتؤدي المخاوف التي لا تنقطع بشأن سلامة الأحباء والقلق المستمر بشأن الغذاء والضروريات الأخرى إلى تفاقم الصعوبات الشخصية المرتبطة بالوضع الذي يبعث على الصدمة. كما أن الحزن الشديد أمر شائع، مثل الخوف.” وبينما سيتمكن معظم الناس من الاستمرار في العمل والتغلب على الأسى الذي تحملوه، سيعاني آخرون من صدمات نفسية قد تلازمهم زمنا بالإضافة إلى الخوف المرضى ما قد يحتاجون معه إلى علاج نفسي واجتماعي طويل
(prolong psychosocial treatment )
ومع ذلك، حتى بعد أن تصمت البنادق، يمكن أن يستمر النزوح لسنوات، إذ باتت المنازل والبنية التحتية خاوية على عروشها وتتناثر الألغام الأرضية والعبوات الناسفة والأجسام غير المتفجرة من مخلفات الحرب والمتروكة في المناطق السكنية .و قد يستغرق الأمر سنوات أو ربما عقود حتى يجري تطهيرها، ما يمنع العودة الآمنة للسكان.
يمكن للدمار الهائل الناجم عن النزاع في المدن أن يعيد مؤشرات التنمية إلى الوراء لعقود.
تذهب بعض التقديرات إلى أن كلفة الحرب في السودان بلغت حتى أبريل 2024 الماضي حوالي (200 بليون دولار) وهو رقم يعادل أربع أضعاف ديون السودان والذي يعتبر واحدا من أكبر الدول الفقيرة المثقلة بالديون على مستوى العالم .
عندما يضطر الناس إلى النزوح و اللجوء بحثًا عن الأمان و للحصول على فرص أفضل، فإن “هجرة الكوادر المؤهلة الذين يدركون كيفية تشييد البنية التحتية وتشغيلها وصيانتها والأنظمة المعقدة التي تعمل بها تصبح مشكلة. وبالمثل فإن انعدام الأمن وإغلاق المدارس يعني أن الأطفال قد لا يتمكنون من الذهاب إلى المدارس لسنوات(تقدر اليونسيف ان حوالي 9 ملايين طفل في السودان أصبحوا خارج العملية التعليمية بالفعل) ، ما ينذر بضياع جيل بأكمله في سعيه للحصول على التعليم وتحسين فرص الحياة .
ربما أعادت سنة كاملة من القتال المسلح العنيف في السودان مؤشرات التنمية البشرية كثيرا إلى الوراء ما يشكل تحديا كبيرا بعد نهاية الصراع .
ترى اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن العواقب الإنسانية لحرب المدن معقدة، ومباشرة وغير مباشرة، وفورية وطويلة الأمد، وظاهرة وخفية. لكنها ليست فجائية أو نتيجة ثانوية حتمية للحرب.
إن الآثار المباشرة والارتدادية المترتبة على استخدام الأسلحة المتفجرة الثقيلة في المناطق الحضرية وغيرها من المناطق المأهولة بالسكان هي أمر متوقع ويمكن تجنبه إلى حد كبير .
والسؤال الذي يثور هنا
كيف يمكننا تقليل أو حتى منع إلحاق الضرر بالمدنيين في حرب المدن؟
للإجابة على هذا السؤال كقوات مسلحة تعين عليها القيام بخطوات تؤكد احترامها وكفالة احترامها للقانون الإنساني الدولي والتي نتجت عن خبرة تراكمية مبنية على جهود أخرى من بينها التعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر مكتب السودان والذي بدأ في أواسط ثمانينيات القرن الماضي مرورا بتطوير مناهج تعليم القوات المسلحة في مجال القانون الدولي الإنساني وتدريب الأفراد عليه(تم تدريب أكثر من 30000 فرد) فضلا عن اصدار قانون القوات المسلحة لسنة 2007 والذي كان أول قانون وطني يُدرج اتفاقيات جنيف الأربع في النظام القانوني الوطني استنادا على مدرسة ثنائية القانون(dualistic ) والتي اخذ بها المشرع السوداني فيما يختص بادراج المعاهدات الدولية وكيفية تطبيقها في النظام القانوني الوطني للدولة (Municipal Law ) ..
كما وقعت القوات المسلحة السودانية مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر اربع مذكرات تفاهم في 2008 و 2011 و 2015 و 2020 والأخيرة ما زالت سارية المفعول.
وفي هذا الإطار فقد أثمرت هذه المذكرات عن تصميم منهج متعدد المستويات لتدريب الضباط والأفراد على تطبيقات القانون الدولي الإنساني في سياق نزاع مسلح فضلا عن تطوير وتصميم قواعد اشتباك للقوات الرئيسية المختلفة و استحداث ما يعرف بأمر العمليات القانوني والذي يشمل فقرات من قانون النزاعات المسلحة كما أسهم تدريب ضباط القوات المسلحة في معهد القانون الدولي الإنساني سانريمو والمشاركة في ورشة عمل كبار الضباط حول القواعد القانونية التي تحكم العمليات العسكرية التي تنظمها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بشكل سنوي والمعروفة اختصارا بسوي مو (SOWERMO ) ولعل من محاسن الصدف أن آخر نسخة من هذه الفعالية الراتبة و التي عقدت في جزيرة بالي بإندونيسيا أواخر نوفمبر من العام 2022م كان موضوعها الرئيسي (تحديات حرب المدن ودور مستشاري العمليات) في تقديم النصح المشورة للقادة العسكريين لتخفيف آثارها المروعة .
اتخذت القوات المسلحة قبل وقت طويل من واقع الخبرة التي اكتسبتها في مجال القانون الدولي الإنساني العديد من الخطوات المهمة لضمان حماية المدنيين في سياق النزاعات المسلحة لا سيما النزاع المسلح الحالي والذي فرض عليها خوضه مستندة على ممارسة واجبها الدستوري والاخلاقي للدفاع عن الدولة السودانية ومكتسباتها ومن أهم هذه الخطوات
سعت القوات المسلحة إلى تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني السارية التي تتكيف مع الاتجاهات الرئيسية في الحروب تطبيقاً صارماً والامتثال لها، وبالأخص مبادئ التمييز والتناسب والاحتياط والتي تمثل أهمية بالغة في حماية المدنيين من آثار الأعمال العدائية في المناطق الحضرية.
تقوم القوات المسلحة السودانية و باستمرار بمراجعة خططها و إعادة تقييم نهجها للعمليات في المناطق الحضرية، بما في ذلك من خلال مراجعة العقائد المتعلقة بحرب المدن وإجراءات التخطيط والتكتيكات واختيار الأسلحة ووسائل وأساليب القتال المناسبة فضلا عن جمع المعلومات وتحليلها يشكل جيد حيث تشكل حماية المدنيين أولوية في تخطيط العمليات إذ أن القوات المسلحة السودانية ملتزمة باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وقوع أضرار عرضية بين المدنيين.
تجنب استخدام الأسلحة المتفجرة الثقيلة قدر الإمكان ، و إذا لزم استخدامها فيتم ذلك في ظل تدابير كافية للتخفيف من وطأتها و للحد من آثارها اللاحقة على المدنيين والبنية التحتية.
انشاء وتكوين خلايا للاشتباك والاستهداف في مراكز قيادة العمليات المختلفة تكون مهمتها تعيين وانتخاب الأهداف بدقة،مع التأكد من تطبيق مبادئ القانون الدولي الإنساني عند التعامل مع تلك الأهداف وبالذات مبادئ الإنسانية و التمييز و الضرورة والاحتياط والتناسب.
في الختام إن حرب المدن تبقى واحدة من أكثر الحروب تعقيدا وصعوبة بالنسبة للعسكريين الذين يقع عليهم عبء تقليل الخسائر وسط السكان المدنيين والبنية الحيوية للسكان إلى اقل قدر ممكن…اذ ان إمكانية عدم حدوث خسائر بشرية ومادية لحرب المدن أصبحوأمرا شبه معدوم أو مستحيل…مما يمثل تحديا جديدا لتطوير قواعد القانون الدولي الإنساني واختبارا حقيقيا لإرادة المجتمع الدولي الذي نأمل أن يتجه إلى وضع قواعد جديدة تحكم العمليات القتالية في المراكز الحضرية المأهولة بالسكان.
9/مايو/2024
عميد حقوقي د. معتز فضل فضل الله (المستشار القانوني)
مدير وحدة حقوق الإنسان والقانون الانساني الدولي
المراجع :
-تقارير وكتابات اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
-تقارير منظمة اليونسيف
-تقارير القوات المسلحة السودانية للرد على بعض شواغل المنظمات الدولية بخصوص حرب الخرطوم وتحديات تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
التعليقات مغلقة.