حرب الجنرالين… أبعاد إقليمية ودولية تتجاوز حدود السودان
على الرغم من أن الاشتباكات العسكرية السودانية بين طرفي المكون العسكري لم تتجاوز الخرطوم إلا إلى الجنينة عاصمة ولاية دارفور فإن هذا الصراع له أبعاده الإقليمية وربما الدولية التي ستكون مؤثرة في مساره، وكذلك حجم الاتساع من حيث الرقعة الجغرافية والمدى الزمني.
لعل أهم معطيات هذه الأبعاد الخارجية بشقيها أمران الموقع الجيوسياسي للسودان، وطبيعة تكوين وأدوار وهيكلة قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي).
على مستوى الموقع الجيوسياسي فإن السودان دولة الربط بين إقليمين أفريقيين بالغي الضعف والهشاشة وهما إقليما شرق وغرب السودان اللذان تعاني فيهما مؤسسة الدولة من الضعف البالغ نتيجة عدد من العوامل، منها عدم قدرتها على السيطرة على كامل ترابها الوطني أو وجود تحديات داخلها مثل الصراعات المسلحة القائمة على ظاهرة الاندماج الوطني الشامل كتداعي الانقسامات القبلية والعرقية والثقافية، وذلك فضلاً عن متغيرات مستحدثة منها التغير المناخي الذي أسفر عن ظواهر طبيعية مثل الجفاف أو الفيضانات وكلاهما أسهما في النزوح الداخلي للسكان وتفاقم مستويات الفقر إلى حد الجوع وانعدام الأمن الغذائي.
وقد أسهمت هذه الظواهر مجتمعة في تصاعد مستوى التهديدات الأمنية، حيث وجدت التنظيمات المتطرفة الممارسة في أغلبها للأنشطة الإرهابية، وكذلك هياكل الجريمة المنظمة معطيات للتضخم والاتساع في أنشطتها، وهي القدرة على التجنيد والدعم البشري بسبب تفاقم الفقر، والقدرة على ممارسة الأنشطة الإجرامية، خصوصاً التهريب عبر حدود شبه مفتوحة، وغير مؤمنة من جانب عديد من الدول الأفريقية.
التأثير والتأثر السياسي والاقتصادي
ونظراً إلى أن السودان يجاور نحو سبع دول جواراً جغرافياً ملاصقاً فإن عوامل التأثير والتأثر السياسي والاقتصادي بهذه الدول يكون كبيراً، كما أن الصراعات المسلحة في هذا النطاق الجغرافي الضخم مؤثرة في بعضها البعض، ومهددة للأمن القومي لجميع هذه الدول.
وعلى مستوى الموقع الجيوسياسي أيضاً تملك السودان امتداداً بحرياً على شاطئ البحر الأحمر لنحو 750 كيلومتراً تقريباً، بما يفاقم من تأثير وتداعيات حالة السيولة على أمن البحر الأحمر الذي تصاعدت أهميته الاستراتيجية نتيجة أمرين: الأول هو التدفقات النفطية الخليجية في النصف الثاني من القرن الـ20، وتحول البحر الأحمر إلى ممر ملاحي ناقل للطاقة العالمية.
على الصعيد العربي، تكمن أهمية البحر الأحمر في كونه يمثل نظاماً فرعياً من إقليم الشرق الأوسط المضطرب والمثير للجدل الذي يقع في قلب قوس عدم الاستقرار، كما حدده البروفيسير برجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي وهو القوس الذي يضم الشرق الأوسط والقرن الأفريقي ومنطقة المحيط الهندي، كما يقع ضمن الإطار الجيوبولتيكي لمنطقة الخليج الاستراتيجية، فللبحر الأحمر أهمية استراتيجية للأمن القومي العربي في ثلاث دوائر هي الأمن العربي والأفريقي والأمن العالمي مركزها القرن الأفريقي.
عوامل الموقع الجيوسياسي للسودان جعلته طبقاً لحوار شخصي مع دبلوماسي بريطاني غير مسموح بسقوطه وإلا تحولت المنطقة الجغرافية من سواحل البحر الأحمر وحتى شواطئ المحيط الأطلنطي منطقة مهددات للأمن العالمي.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى صعيد مواز، فإن إطلالة السودان على البحر الأحمر جعلته نقطة تقاطع مصالح بين قوى دولية وإقليمية تتنافس للحصول على موانئ هذا البلد القائمة بالفعل أو حتى المخاطرة باستثمارات ضخمة لإنشاء موانئ جديدة، من هنا يكون من الطبيعي أن تمارس روسيا ضغوطاً كبيرة ومتتالية على السودان للحصول على نقطة ارتكاز بحري على شواطئه وهو ما قاومته واشنطن طوال الوقت وجعلت السودان في بؤرة الصراع الدولي الذي يحتدم حالياً بسبب الحرب الروسية- الأوكرانية.
في هذا السياق، ربما تكون دولة جنوب السودان من أكثر الأطراف الإقليمية المتأثرة سلباً بالاشتباك الداخلي السوداني نظراً إلى ارتباط اقتصادها بمصافي النفط في بورتسودان ففي حالة توقف هذه المصافي سيكون الاقتصاد الجنوب السوداني فاقداً لأهم مقوماته وهو الإيرادات النفطية التي تشكل المورد شبه الوحيد لجوبا.
قوات الدعم السريع بين التكوين والأدوار
تشكل قوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) حالة جديرة بالاهتمام والمراقبة نظراً إلى تأثيراتها العابرة للسودان نحو كل من الخليج العربي وإقليم غرب أفريقيا، وربما ذلك ما يجعل حميدتي رجلاً مدعوماً أو مطلوباً لدى أطراف عربية وأفريقية ودولية، ذلك أنه إذا كانت هذه القوات قد تشكلت بدوافع داخلية لحماية نظام البشير مخافة انقلاب الجيش عليه، خصوصاً بعد الاحتجاجات الشعبية ضده عام 2013 فإن اندلاع حرب اليمن كانت المعطى الأساسي لتضخم قوات الدعم السريع، حيث تطلبت المشاركة فيها المطلوبة خليجياً تجنيداً من كل من السودان وتشاد والنيجر وغيرها، وهي قوة عسكرية ضخمة سمحت لحميدتي بأمرين، التوسع في علاقته الإقليمية والتأثير في دول الجوار المجاور والمتاخم للسودان، وكذلك أن يسيطر على مناطق تعدين الذهب في إقليم دارفور خارج نطاق سيطرة الدولة، وبدا هذا المعدن مهماً لكل من روسيا عبر شركة “فاغنر” لتمويل أنشطتها، والخليج خصوصاً دبي التي تعد مركزاً عالمياً للذهب.
في هذا السياق، تشكلت علاقات حرجة بين حميدتي وتشاد، حيث إن الرجل متهم من جانب رئيس تشاد الحالي محمد إدريس ديبي بالتسبب في مقتل أبيه عبر دعم المعارضة التشادية التي اغتالت الأب في مواجهات عسكرية قبل أكثر من عام.
طبقاً لهذه التفاعلات أصبحت العلاقات بين حميدتي وفرنسا حرجة، وذلك إذا ما صحت الاتهامات في شأن مقتل إدريس ديبي رجل فرنسا القوي في منطقة الساحل الأفريقي، من حيث صيانة مصالحها، ومحاربة الإرهاب.
وجود مكون تشادي في هياكل “الدعم السريع” يشكل حالياً تهديداً لهياكل هذه القوات وتأثيراً ربما على التوازن العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد بيان أخير للقبائل العربية هناك تناشد فيه أبناءها الانسلاخ من قوات الدعم السريع بعد الاشتباك العسكري في السودان، وتقول إن حميدتي قد خدعها لأن تجنيد أبنائها كان بهدف القتال في اليمن وليس في السودان.
العلاقات بين شركة “فاغنر” الروسية وحميدتي تشكل مصدر قلق أميركي كبير خصوصاً بعد قدرة “فاغنر” على التوسع بإقليم غرب أفريقيا عبر نجاحها في إزاحة النفوذ الفرنسي كلياً من مالي وبوركينا فاسو وتهديده في دول أخرى أهمها تشاد حيث تملك فيهم فرنسا نفوذاً تقليداً.
مخاطر خلخلة التوازن
هذه العلاقات دفعت الإدارة الأميركية إلى عدم تفعيل قانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان وهو الصادر في نهاية 2020 حتى لا يسهم ذلك في خلخلة توازن القوى بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لصالح الأخيرة، وذلك على الرغم من ضلوع قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان في انقلاب عسكري ضد حكومة مدنية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
إجمالاً تشكل هذه الخرائط والتفاعلات من العلاقات الخارجية عوامل إضافية لامتداد الصراع العسكري في السودان أو تحجيمه حيث تتابع واشنطن الموقف لحظة بلحظة عبر تصريحات شبه يومية لوزير خارجيتها بلينكن وتهندس كذلك مبادرات للتهدئة ووقف إطلاق النار عبر شريكيها الخليجيين في المبادرة الرباعية، وهما كل من السعودية والإمارات وكذلك تقوم الإدارة الأميركية بدعم مبادرات العودة لتفعيل لعملية السياسية السودانية عبر كل من الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد، وذلك بهدف الحفاظ على دولة السودان من التشظي في لحظة حرجة بالنسبة لها على خلفية الصراع مع روسيا.
في المقابل، فإن هناك أطرافاً ربما لا يهمها مسألة توسع حجم الاشتباكات وتطورها نحو حرب أهلية سودانية شاملة، لأن الفوضى في السودان تتيح الحصول السهل وغير المكلف على الموارد خصوصاً الذهب، كما أن لبعض دول غرب أفريقيا أطماعاً في الوصول لشواطئ البحر الأحمر باعتبارها دولاً برية مغلقة، من هنا فإن السيولة السودانية توفر لها تحقيق أغراضها.
وفي ما يتعلق بالموقف العربي بشكل عام وخصوصاً المصري يشكل انهيار دولة السودان ضغوطاً كبيرة عليها من ناحية توفير المساعدات واستقبال النازحين والهاربين من القتال، والأهم من كل ذلك وربما الرئيس فيه المخاوف المتعلقة بأمن البحر الأحمر وتصاعد التهديدات الأمنية، من هنا نشطت القاهرة في تقديم مبادرات التهدئة مرة استصحاباً لدولة جنوب السودان ومرة أخرى استصحاباً لدولة الإمارات، لكن يبدو أن مجهودات الاتحاد الأفريقي هي التي ستحظى بالدعم الدولي نظراً إلى أدواره السابقة في محاولة حل المعضلة السودانية، سواء قبل أو بعد الثورة السودانية عام 2018.
التعليقات مغلقة.