ترميم الدولة أم تدميرها – نقاشات حول الحرب والسلامWhen someone opportunity is getting messed up the person is usually apart of it. بقلم: أ.عبدالله بشير
ترميم الدولة أم تدميرها – نقاشات حول الحرب والسلام
When someone opportunity is getting messed up the person is usually apart of it.
بقلم: أ.عبدالله بشير
من خلال ما تتعرض له الدولة من تدمير في بنيتها التحتية والقيمية اليوم، من المناسب أن يقدم المرء رأيًا قويمًا عن ما يراهُ صائبًا ومفيدًا؛ لأهمية وجود الدولة بمؤسساتها المختلفة بما فيها بالطبع، مؤسسة الجيش؛ لأن الدولة لم تكن في يوم من الأيام جهة جغرافية أو فئة عرقية معينة. إنما في الأصل تقوم الدولة وتتمحور حول منظومة متكاملة، وعلى ذلك المنحى يتم البناء والتخطيط صعودًا علي السلم السياسي والاقتصادي والإجتماعي والامني، ونزولاً إلي كيفية إدارة حياتنا اليومية كأساس للبناء، ومن المناسب أكثر أن يكون هذا الرأي قد جاء كتعليل تطوري لأراء بزلناها كمؤسسة حزبية وأفراد، وقدمنا فيها إطارًا نضع من خلاله قضايا الأمن القومي، والترتيبات الأمنية؛ كترتيب لازم لإعادة ترميم الدولة.
عندما إندلع العنف في الخرطوم صبيحة الخامس عشر من أبريل من العام المنصرم، بين القوات المسلحة السودانية، والقوات شبه العسكرية Rapid support force .paramilitary قوات الدعم السريع. لم يكن أحدًا يتصور أن تسبب تلك الحرب كل هذه الإنقسامات والتشظي المريع الذي نشاهده الآن في كل المستويات، وترجم ذلك الحدث فعليًا خلافات النخب السياسية والعسكرية. إضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية التي لديها مصالح في السودان. قد خبر السودانيين حرُوبًا متعددة منذ إستقلال الدولة من بريطانيا في القرن الماضي إلا أن هذه الحرب مختلفة تمامًا؛ فقد كانت الحرب في الماضي بين القوات المسلحة السودانية والحركات الثورية التي تطالب بوضع إصلاحات دستورية وسياسية من شأنها أن تؤدي إلى قيام دولة عادلة وغير منحازة لفئة ضد آخرى؛ وكانت العمليات العسكرية تستهدف البنبة العسكرية للمتقاتلين، دون أن تستهدف المواطنين بشكل مباشر. لكن، هذه الحرب مختلفة تماماً، كونها قامت بين القوات المسلحة السودانية، وقوات شبه حكومية أنشأتها الدولة نفسها لمحاربة حركات الكفاح المسلح التي لديها مطالب سياسية واضحة. والآن أصبح الموطن مستهدفًا من قبلها بصورة مباشرة، عندما وضعت سلاح الدولة الذي كانت مؤتمنة عليه، في أيادي عدمت الحكمة والنُبل؛ فإستخدمته بلا وعي ولا هدف ولا قضية.
قُبِيل إندلاع الحرب بوقت قصير، طرحت القوى المدنية الموقعة على الإتفاق الإطاري مجموعة من الورش، كجزء من الإتفاق السياسي النهائي، لتأسيس سلطة مدنية، ودارت نقاشات مطولة حولها، وإختلفت الأراء في جدواها. وأذكر في ذات ظهيرة كنت في مكتب رئيس الحركة الشعبية الفريق مالك عقار اير في الخرطوم، أناقش معه موضوع تلك الورش المطروحة، دخل علينا الشهيد الجنرال خميس أبكر، حاكم غرب دارفور؛ الذي أقتيل لاحقاً وهو يدافع عن أهله وبلاده؛ إستأذنت للمغادرة، لكن الرئيس مالك أشار لي بالجلوس، وقال: إن الجنرال خميس أيضا جاء لمناقشة نفس هذا الموضوع، ”وتلك كانت أخر مرة أجلس فيها مع الجنرال خميس“، وبعد نقاش مستفيض إستقر الرأى علي أن موضوع الإصلاح الأمني والعسكري يعتبر مسألة معقدة للغاية، وهي مسألة فنية وعملية أكثر من كونها نظرية، وبحكم تجربتنا في الكفاح المسلح، وكيفية إدارة الجيوش وطريقة عملها، توصلنا إلي أن الطريقة المثلى للوصول إلى هدف بناء منظومة عسكرية وأمنية محترفة، عبر برنامج الإصلاح الأمني والعسكري، هو ترك ذلك الإجراء إلي الحكومة التي سوف تُشكّل، وعلي القوى المدنية أن تركز في الوصول إلى تفاهمات إيجابية مع شركاء الإنتقال، بغية تشكيل حكومة مدنية شاملة ومن ثم تتولى تلك الحكومة عبر مشروعيتها كممثلة للشعب، عملية الإصلاح الأمني والعسكري. لأن عرض هذه المسألة من أحزاب ليس لديها مشروعية في السلطة، قد يؤدي إلى تعقيد الأوضاع، أو أن يُفسَّر ذلك بسوء نية من طرف تجاه الطرف الآخر، وخاصة إن بوادر الخلافات بدأت تظهر آنذاك بين القوتين العسكريتين في البلاد، وتلك كانت رؤيتنا، لكن للأسف قامت تلك الورشة، ولم يمضي وقت طويل بعد ذلك حتى إندلع العنف المستمر إلي الآن.
قبل توقيع إتفاقية جوبا للسلام، أمضيت الصيف برفقة الفريق مالك عقار رئيس الحركة الشعبية، في رئاسة الحركة بمنطقة أولو العسكرية، وكانت النقاشات تدور حول المفاوضات والسلام، حيث إنقسم الرفاق حيال أفضل السُبل للتوصل إلى سلام يتناسب مع حجم التضحيات التي بُزلت لسنوات طويلة، وقد كانت المعضلة الحقيقية التي تحتاج إلي الكثير من المرونة والحكمة في تسويتها هي مسألة الترتيبات الأمنية وتوفيق أوضاع المقاتلين السابقين بعد توقيع إتفاقية السلام، ودار حول ذلك نقاش جاد، وكان من ضمن الآراء، هنالك من يرى ضرورة الإحتفاظ بالجيش لأطول فترة ممكنة؛ كضمان لتنفيذ ما سوف يتم الإتفاق حوله مستقبلاً، بالتالي الإحتفاظ بالجيش يعتبر الضامن للتنفيذ، والحارس للإتفاقية في حال حصل أيّ نوع من أنواع التنصل منها، ودعاة هذا التوجه ينطلقون من تاريخ السودان السياسي مع الاتفاقيات التي أبرمت من قبل، ولم يتم الإيفاء بها. القائد مالك عقار حسم ذلك الحوار بقولة: ”كحركة ثورية مسلحة علينا التعلم من التاريخ، وأخذ العبر منه، وتطوير آليات تواكب المتغيرات التي طرأت على مجمل الأوضاع في المنطقة، أشار أن العقديين المضايين حدث فيهما متغيرات كثيرة على المستوى الإقليمي والدولي، بما في ذلك إنفصال جنوب السودان، لذلك، إن الرأى الذي ذهب إلى الإحتفاظ بالجيش الشعبي يجانبه الصواب، وفقاً للمتغيرات التي ذكرتها، أما الذين إستندوا علي تجربة نيفاشا، فقد أملتها ضروريات المرحلة، وحكومة جنوب السودان هي التي تحملت الصرف على قوات الجيش الشعبي من مال بترول الجنوب، بعد أن رفضت الدولة المركزية الصرف على الجيش الشعبي في حال أرادت الحركة الإحتفاظ بجيشها، كما أن وجود بند حق تقرير المصير لجنوب السودان بعد إنتهاء الفترة الإنتقالية، خلق وضعاً في حال قرر الجنوب الإنفصال بعد الإستفتاء بحيث يكون الجيش الشعبي هو جيش الدولة الوليدة، وقد كان. أما نحن فلم نقاتل من أجل أن يكون لدينا جيش خاص؛ فمسألة وحدة السودان أرضًا وشعبًا حسمناها مسبقًا، بالتالي الإحتفاظ بالجيش بعد تحقيق القضايا السياسية التي ناضلنا من أجلها أمر ليس له جدوى، ثم أن وجود جيشين في بلد وأحد رؤية ينبغى أن لا تخرج من منظومة سياسية تطرح تصوراً جديداً لحكم البلاد، وجود جيشين في بلد وأحد قنبلة موقوتة.عليه يجب أن نذهب إلى بناء جيش وأحد للدولة“. وبناءً على تلك الرؤية وثمرة تلك النقاشات، وما تلى ذلك من عمل وجهد كبيرين، هو الذي مهد لبرنامج الترتيبات الأمنية الحالية التي قطعت فيها الحركة شوطًا طويلاً.
عندما إندلعت هذه الحرب، كان الوقوف مع مؤسسة القوات المسلحة السودانية، هو القرار الصائب؛ بالرغم من ان الوقوف في” الحياد” كان أريح، لا تتحمل معه أي مسؤولية، وليست لديه تبعات سياسية. أما قرار الوقوف مع مؤسسات الدولة، قائمًا على تحمل كامل المسؤولية، والوعي بدور الدولة وأهميتها، والتفريق ما بين النظام الزائل الذي يمكن إستبداله ومؤسسات الدولة التي يجب أن تبقى، وتجري عليها عمليات إصلاح وترميم مستمرين. وإحتكار الدولة للعنف عبر مؤسسة وأحدة. ومهما يكن من قصور ونقاط الضعف في المؤسسة العسكرية، يجب أن لا يقود ذلك إلى إنتاج مواقف ضد الدولة، التي لدينا فيها مصلحة مشتركة. والتاريخ يقول إن القوات المسلحة، ميزت نفسها كمؤسسة دولة، وفصلت نفسها من الحزب الحاكم عدة مرات، حصل ذلك في خلال الأعوام 1964 – 1985 – 2019م، ذهبت تلك الأنظمة وبقيت الدولة بمؤسساتها، وقد يكون هنالك وجهات نظر مختلفة حول السياسات التي إتبعتها الدولة، مثّل وجود مليشيات عرقية خارج مؤسسات الدولة؛ كما هو حاصل الآن؛ فالموقف الصحيح يكمن في إنهاء ذلك الوجود الشاذ لصالح مؤسسة واحدة، وليس إضعاف المؤسسة القومية، لصالح المليشيات العرقية من أجل مكاسب سياسية آنية بعدها لا يكون هناك وطن ولا مؤسسات.
على النقيض تمامًا مما ذكرناه، تم إنشاء هذه القوات الموازية داخل الدولة، بقرار سياسي أوحادي النظرة دون وضع إعتبار للأبعاد الإستراتيجية لوجودها الشاذ داخل الدولة؛ لأنها ليست مؤسسة دولة؛ فيعتبر التدمير عملاً عاديًا، لأن التدمير من سماتها الأساسية التي تم تكوينها من أجله؛ فالرئيس السابق عمر البشير هو الذي أسس هذه القوات لحمايته كما قال، وليس لحماية الدولة، لذلك بعد ذهاب البشير وحكومته لم تكن لهذه القوات الإلتزام الكامل تجاه الدولة من جانب المستفيدين منها، ويبتدى ذلك من خلال مؤسسات الحكم التي هم جزء منها، طالما ظلت حامية الدولة والجماعات الإجتماعية التي تشكلها؛ عندما إندلعت الحرب مارست ما أُسِسَت من أجله وهو التدمير، ولديها تاريخ حافل بالإنتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان؛ فعلي مدى عقدين من الزمان شقت هذه القوات طريقها بالدم، وقامت بممارسة أبشع أنواع الجرائم ضد المجتمعات.
هذه القوات نشأت بقرار سياسي، لحماية النظام السابق، لكنها لم تعتمد برنامجًا سياسيًا محددًا ولا أهداف ورؤية إيديولوجية، أو ما يسمى بالمصالح التأسيسية، لذلك تبنت عدة شعارات ومواقف بعد الاطاحة بمؤسسها الرئيس المخلوع، وبعضها متناقض في الحقيق.، لانه لا يمكن أن يكون النضال من أجل الديمقراطية بالسلب والنهب والقتل وإنتهاك الأعراض؛ فمن يقاتل من أجل مشروع سياسي لا يتعرض للمواطنين، وحركات الكفاح المسلح خير دليل علي ذلك. وذاكرة السودانيين لا زالت تحتفظ ما حدث في العام 2008م،وحينما وصلت قوات حركة العدل والمساواة مدينة أمدرمان، بالرغم من أنها وصلت منهكة وتعبة من طول المسير، إلا أن قواتها لم تتعرض لمدني وأحد، في تجسيد حقيقي للنضال، وكذلك فعلت الحركة الشعبية، في جميع المناطق التي دخلتها أثناء نضالها الطويل ضد الحكومات المركزية على مدى أربعة عقود.
النضال من أجل القضايا الكبرى لن يتحقق إلا بالمبادئ والأخلاق والإنضباط، ويروى الجنرال أحمد العمدة أنه في بداية تسعينيات القرن الماضي، أوفدته قيادة الحركة الشعبية للتبشير بمشروعها السياسي عند مضارب أهله نواحي منطقة سودا في محافظة باو، قال: ”ذهبت إلي هناك برفقة عدد من الرفاق في الجيش الشعبي، بعد وصولنا علم الأهالي بتواجدي مع قواتي حول المنطقة، لم أمكث طويلاً حتى جاء لزيارتي عمي “دلدوم درك”. قدمت له التحايا والإحترام كما هو متبع عندنا، وشرحت له الكثير حول نضالنا ومعركتنا ضد الظلم والتهميش وغير ذلك. وعندما هم مغادرًا قال لي: يا أحمد يا إبني إن جماعتك أخذوا ساعتي.على الفور إستدعيت جميع القوة، وأمرتهم بأرجاع الساعة، إلا أن ذلك لم يفلح بإخراج الساعة، سألته إن كان يعرف الشخص الذي أخذ منه الساعة، قال نعم، وتعرف بالفعل علي الشخص، أمرته بإخراج الساعة، لكنه حاول “الجرجرة” بلغة الجيش – تعني التسويف، مدعيًا مرة أنه لم يأخذ الساعة، أو ربما وقعت منه في الأدغال أثناء مجيئهم. أمرت بمحاكمته ميدانيًا، خاصة وأنا أعلم أن العم دلدوم من الثُقاة الذين لا يمكنهم الكذب في أمر كهذا، وعندما علم العسكري أن الأمر جاد وبدأت إجراءات المحاكمة الميدانية، إعترف وأخرج الساعة، وكان يخبأها في الكفوف تحت خزنة السلاح..لو عاد العم دلدوم ذلك اليوم إلي البلدة بدون تلك الساعة لإنتهت قضيتنا في نظر سكان تلك المنطقة، لأنه سوف يعود حاملاً بينة واضحة أننا عبارة عن مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق. ومنذ تلك الواقعة تعلمت درسًا مهمًا في حياتي، أن السلاح بدون قضية و وعي وتوجيه وضبط مهما كان نُبل ما تقاتل من أجله سوف ينتهي إلي فوضى. لذلك تفاديت طوال أكثر من ثلاث عقود دخلت فيها عشرات المعارك، تفاديت الدخول بجيشي إلي مناطق المواطنين.
إن تحقيق السلام والعودة إلى الإستقرار هو الأساس الذي ينبغي العمل عليه، لكن عبر الإجراءات السليمة والصحيحة، بحيث تعالج الأسباب الأساسية التي أدت إلى إندلاع العنف؛ فمقولة “لا الحرب” وحدها غير كافية لإنهاء الحرب، وأنها لا تعتبر موقفًا من الأساس، إذ يمكن أن يكون لا للحرب موقفًا أخلاقيًا مقبولاً قبل نشوب الحرب، أما بعد نشوبها؛ فإن واقعاً جديد أوجدته الحرب. لقد إنضم الآلاف من المقاتلين الذين لم يكونوا جزاءً من تلك القوات قبل إندلاع الحرب، وبالتالي إنهاء الحرب يتطلب إجراءات جديدة، ليس من بينها عبارة “لا للحرب”. اذا كانت هذه القوات تفترض أنها جزء من الدولة ؛ فيجب ان تعود الى الدولة عبر إنهاء تمردها، والخروج من منازل المواطنين، وإيقاف الإنتهاكات، و وقف إطلاق النار، وبقية الإجراءات المعروفة. أما اذا طورت رؤية سياسية تخصها، عليها طرح تلك الرؤية مثلها مثل أي حزب سياسي.لكن في جميع الحالات الطريق الوحيد لإنهاء الحرب هو عبر الترتيبات الأمنية، اما أيّ محاولة مستقبلية لإعادة الوضع إلى ما كان عليه، بوجود جيشين، وعودة تلك القوات للإستعانة بها سياسيًا، سوف يقود السودان إلي محرقة أخرى لا محال وستظل البلاد ترزح تحت وطأة حرب لا نهائية.
الجيش الواحد للسودان، هو فقط الضامن لوجود السودان و وحدته، وذلك عبر ترميم مؤسسة القوات المسلحة السودانية، وليس تأسيس جيش جديد على أنقاض القوات المسلحة السودانية، كما ذهب إليه رئيس الوزراء السابق الدكتور عبدالله حمدوك، عندما وقع إتفاق مع القائد عبدالعزيز الحلو، والأستاذ عبدالواحد محمد نور، في وثيقة سُمِيت بأعلان نيروبي، حيث تضمن الإعلان نصاً عن تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة وفقاً للمعايير المتوافق عليها دولياً، ولا أدري ما هي تلك المعايير الدولية في إنشاء ذلك الجيش الجديد، لكن التجارب الدولية في حل جيوش الدول كانت واضحة، وأيّ دولة تم حل جيشها دخلت في دوامة فوضي عارمة ولم تخرج منها، ولدينا أمثلة منها العراق وليبيا. وتجربة هايتي دليل ناصع على ذلك، حيث حلت جيشها عام 1995م بناءً على إدعاءات مشابهة لحالة السودان، وذلك بتدخل الجيش في السياسة، واليوم العصابات تعيث فسادًا في البلاد، الأمر الذي جعل الأمم المتحدة تستعين بكينيا لإستعادة النظام في هايتي، ولماذا كينيا؟ الله أعلم! ربما نرى جيشاً كينيا لإعادة النظام في مناطق سيطرة هذه المليشيا.
السبيل الأفضل لبناء جيش قومي مهني وأحد، هو عبر الترتيبات الأمنية، و لقد وضع إتفاق جوبا لسلام السودان ٢٠٢٠م برتكول الترتيبات الأمنية، أساسًا متينًا لذلك، عبر دمج جميع القوات في المنظومة الأمنية، وتم وضع مبادئ عامة تبدأ بنزع السلاح والتخلص من جميع الأسلحة، ثم التسريح وهو الإعفاء الرسمي لمن إختار الحياة المدنية، ويليها إعادة الدمج، حيث أشارت الإتفاقية أن الغرض النهائي لعملية الدمج أن تكون القوات المسلحة السودانية بعقيدتها العسكرية الجديدة التي تحمي المواطن والوطن والدستور الجيش الوطني المهني الوحيد ودمج كافة القوات المتواجدة في الأرضي السودانية في جيش وطني مهني موحد. وبطريقة عملية يمكن أن تشكل تجربة الجيش الشعبي في المنطقتين في الترتيبات الأمنية، الأساس العملي لأيّ برنامج ترتيبات أمنية في المستقبل. وتُعد عمليات تسريح المليشيات ونزع السلاح وإعادة الدمج جزء من الهدف البعيد المدى وهو بناء السلام؛ فلا يمكن تحقيق سلام إلا من خلال خطط تسريح ونزع سلاح وإعادة دمج سليمة، فخطط تسريح المليشيات ونزع سلاحها ضرورية لتفكيك الجماعات المسلحة، وتعزيز إحتمالات تحقيق سلام دائم.
في أكتوبر من العام الماضي، بعد ستة شهور من إندلاع القتال في الخرطوم، في أديس أبابا، أثناء حديث جانبي مع البروفيسور جيتاتيشو اسيفا، أستاذ مشارك وعميد كلية الحقوق بجامعة أديس أبابا، وبعد مداخلة قدمها حول دور الحكومة الإنتقالية الأولية بعد الصراع المسلح الداخلي، قدم فيها تجربتهم في إثيوبيا بعد وصول جبهة تحرير شعب التقراي إلي الحكم في العام 1991م. حيث غيرت كل شيء في إثيوبيا، بما في ذلك دستور جديد بموجب تفاهمات جديدة تستوعب وتدير الدولة. سألته إن كانت هذه التجربة بعد ثلاث عقود من الحكم قد نجحت بالفعل في إنتاج قدر من الإستقرار؟ لا سيما وأن تطورًا ملحوظًا قد حدث في شتى مناحي الحياة. قال لي: ”للأسف إن نُخبنا السياسية قد فشلت في تطوير إطارًا دستوريًا ذا بعد قومي أكثر، يوحد الإثيوبيبن كشعب وأحد، ويتجاوز التفاهمات الإثنية التي قامت عليها الدولة قبل ثلاثة عقود، اليوم داخل هذه هذه المباني الجميلة التي تراها، تحمل بداخلها تصدعًا إثنيا خطيرًا يهدد بقاء الدولة ككل، إذا نظرت من حولنا الآن، هنالك تزمر في كل مكان“؛ فبناء الدولة علي شكل وحدات مستقلة أمر خطير على مستقبل أيّ بلاد في العالم.
مع إستمرار الأزمة في السودان، بدأت المخاوف تزيد، وبعض الأصوات ترتفع، ومن شأن ذلك أن يهدد بقاء السودان كدولة موحدة ذات سيادة، ومع تنامي الإتجاه الذي يرى أن تقسيم السودان إلى وحدات مستقلة قد يعزز السلام، للأسف يعد هذا المنحى خاطئًا، ودلت التجارب إلي أن التقسيم لم يكن دومًا الحل الأمثل، ولم يعزز السلام، بل فتح بابًا جديد من المنازعات، وبلدنا يتمتع بتنوع نادر ومشهود، يحتاج إلي بلورة هذا التنوع بتبني أفضل النظم، وتحديدًا، نظام حكم فدرالي ديمقراطي حقيقي، وفقا لإتفاق جوبا لسلام السودان ٢٠٢٠م. لأحتوائه أفضل الأسس لتطوير نظام الحكم في السودان، ويتيح في نفس الوقت لمختلف الوحدات والمجموعات الإجتماعية فرص المشاركة والتفاعل الإيجابي وكذلك التطور.
التعليقات مغلقة.