
نافذة ذكريات مع القائد حماد آدم حماد في مسار الكفاح الوطني التحرري: سعد محمد عبداللهإعتاد ”طائر الموت“ علي مدار قرون من تاريخ هذا الكوكب التحليق فوق رؤسنا بجناحيين من اللهب؛ خاطفًا الملايين من الأحبة والرفاق الأعزاء؛ ويحمل أرواحهم إلي عالم آخر غير منظور للأحياء، وقد أخذ الآن الرفيق حماد آدم حماد الذي كان قائدًا فذًا من أبرز رموز الكفاح الوطني التحرري، والذي ترك لكل رفاقه ذكريات خالدة تنبت زهرًا فوق وتحت هذه الأرض التي أحبها في كل الفصول والمواسم وناضل من أجلها، وخطفته المنية بقذيفة لم تقتله أمثالها في ساحات المعارك سابقًا ولكنها قتلته غدرًا بينما يشاهد حربًا لم يشهد مثلها طوال حياته التي كان فيها سياسيًا يحاور بلسانه ومحاربًا يقاتل بسلاحه من أجل بناء دولة تحقق العدالة الإقتصادية والإجتماعية والثقاقية في ظل التنوع التاريخي والمعاصر، ولكن اليوم تحارب المليشيات وتحالف وكلاء الإستعمار في سبيل النهب والخراب والقتل علي أساس اللون والجغرافيا، فيا لتلك المسافات البعيدة، وبعد الرحيل المُر للقائد حماد آدم سنظل نذكر أسماء المناضليين من أمثاله إلي الأبد؛ فهم الذين صاغوا تاريخًا تحرريًا زاهيًا للأجيال الجديدة الحالمة بميلاد السودان الجديد الموحد. تعرفتُ علي الرفيق القائد حماد آدم حماد لأول مرة في دار الحركة الشعبية بمحلية سنار – شارع الـ(الدكاترة) عندما كنا نعمل مع عدد من الرفيقات والرفاق في الحركة الشعبية بقيادة القائد سلفاكير ميار ديت رئيس دولة جنوب السودان حاليًا تحت راية تجمع شباب الحركة؛ إذ جاء إلينا مع مجموعة من القادة لإحياء ليلة سياسية في العام 2008م، وأحاول تذكر بعض المتحدثيين الحركيين في تلك الندوة مثّل ”وليام قوبيك وين ماثيو وميخائيل قرنق وحماد آدم حماد وعلوية كبيدا وغيرهم سياسيين من مختلف المواقع التنظيمية والتنظيمات الصديقة“، وكنت حينها شابًا صغيرًا بينما سمحوا لي أن أتحدث إنابة عن تجمع شباب الحركة الشعبية بمحلية سنار، لكن كانت كلمة القائد حماد آدم حول قضايا بناء السودان الجديد وضعتنا جميعًا في مسار حوار شيق وعميق إستمر لوقت مقدر بعد إنتهاء تلك الندوة التاريخية. كان الرفيق حماد آدم رجلاً صارمًا وحازمًا يتحدث بلسان ثائر يجلجل في الساحة، وبجدية تجعل من يشاهدونه ويستمعون إليه يتفاعلون مع نبرات خطاب الحماسة ويتلمسون جوهر الإستنارة في آن واحد، وكنت بين أولئك الشباب الذين فتحوا حوارًا طويلاً مع الرفيق حماد آدم حول بنية الدولة وفقًا لرؤية السودان الجديد سيما في اللقاءات التي جمعتنا لاحقًا بدُور الحركة سواء في الوحدة الإدارية مايرنو التي زارها كثيرًا مع الرفيق وليام قوبيك الذي كان يأتي لتعليم الشباب اللغة الإنجليزية أو مكتب الولاية بسنجة التي كنا نزورها من وقت لآخر، وفي كل مرة كنت أراهن علي مدى صبره في مساحات الحوار مع صرامته المعهودة، فهو يجيد الإستماع والرد بحزم، وربما حاول البعض من قبلنا ومن بعدنا الرهان علي ذلك الأمر إلا أن الحقيقة والنتيجة تظهران ”صبرًا جميلاً لا حدود له“ من أجل أن يبث الإستنارة في عقول الناس مبشرًا بما يؤمن به من أفكار سياسية لبناء الدولة الجديدة التي حمل السلاح في سبيلها. من المشاهد المؤثرة أن الرفيق حماد آدم إتصل بنا ذات ليلة، وطلب منا الحضور إلي سنجة فورًا، ومع بداية الفجر تحركنا وقابلناه مع مجموعة كبيرة من القيادات، وكان أمره القيام برحلة سياسية إلي منطقة (العزازة جاموس) والتي وصلناها في وقت متأخر؛ حيث أكرمنا شعبها كرمًا لا مثيل له، وخاطب فيها تجمعًا جماهيريًا لسكان المنطقة، والذين أعلنوا الإنضمام للحركة الشعبية، وقد حدث ذلك نتيجة حوار عميق بين القائد حماد آدم وآخرين وقيادات من تلك المنطقة، وعندما هممنا بالعودة إلي سنجة خرجت القرية كلها في مسيرة راجلة خلف سياراتنا غطت السماء هتافًا ورهجًا، ورفضوا العودة إلي منازلهم حتى نزل حماد آدم وجلس علي الأرض وإقتلع نظاراته الشمسية ومسح بيديه علي شواربه وهم يقفون ويهتفون من حوله قائلاً لهم ”أما أن تعودوا إلي قريتكم وتتركونا نذهب نحن إلي أشغالنا أو نعود معكم الآن“ وبعد نقاش طويل إستقرق ساعة تقريبًا تمكن من إقناعهم بالعودة مع قطع وعد منه وحليفة مغلظة بأن يعود لزيارتهم مرةً آخرى. هذه الرحلة الطويلة وغيرها من المشاهد السياسية التي جمعتنا مع الرفيق حماد آدم جعلت صورته راسخة أكثر في كافة الساحات، ولكن منذ إندلاع الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق في العام 2011م بعد إنتخابات ساخنة خاضتها الحركة، والرفيق حماد آدم مرشحًا فيها لمنصب والي ولاية النيل الأبيض، وما صاحب الحرب من إعتقالات وإغتيالات للرفاق الذين ذهب بعضهم إلي المنافي فأصبح من الصعوبة بمكان أن يتواصل الكثيرين من مختلف الولايات، وبعض الرفاق الذين كانوا في تلك الحقبة لا نعرف مصيرهم، وظل الرفيق حماد آدم رغم كل المسافات الزمكانية مع حالة الصعود والهبوط للسياسة السودانية وتيارات الحركة الشعبية وإفرازات الإنقسامات المتعددة، ومع غيابه ظل إسمًا خالدًا في قلوب وعقول الجماهير بل أضحى اليوم الإرث الذي إجتمع حوله الرفاق علي إختلاف توجهاتهم السياسية، وينبغي علينا التوقف قليلاً كيما نأخذ من مثّل هذه الشخصيات المقبولة لدى الجميع ما يوحد السودان والسودانيين، ويجب أن نتذكر إسم حماد آدم وغيره من أبطالنا الشهداء عندما نفكر مليًا في الإستماع لبعضنا العبض وإدارة حوار بناء يتخلله صوت الصبر والموضوعية من أجل التنوير والتحرر والتغيير أو في البحث عن أدوات تكوين مشروع سياسي ودستوري مشترك للحكم والإدارة عبر حوار وطني شامل يهدف لإيجاد الحد الأدنى من الإتفاق السودانوي بما يمهد لبناء دولة السلام المواطنة والتنمية، ولا بد من أن يفتح الإحتفاء بكل المناضليين طريقًا للعبور نحو المستقبل المنشود.
التعليقات مغلقة.