*مذبحة قرية ود النورة في ضوء مبادئ القانون الدولي الإنساني بقلم دكتور معتز فضل فضل الله المستشار القانوني والخبير في القانون الدولي
*مذبحة قرية ود النورة
في ضوء مبادئ القانون الدولي الإنساني
١.فجعت البلاد وكل شعوب العالم -من ذوي الضمائر الحية والوجدان السليم- يوم الأربعاء الخامس من يونيو ٢٠٢٤ على خبر مروع وصادم وما اكثر الأخبار والوقائع المروعة التي دونتها وما زالت مضابط الشعب السوداني المؤمن بقضيته الصابر على بلائه منذ أكثر من عام.
٢.تعرضت قرية ود النورة الكائنة بولاية الجزيرة الخضراء صبيحة يوم الأربعاء الخامس من يونيو لهجوم كاسح وبكل انواع الاسلحة راح ضحيته اكثر من مئتي قتيل بينهم ٣٥ طفل وطفلة وأكثر من مئة من الجرحى فأحال المهاجمون خضراء القرية الى يباب ينعق فيه الخراب وكأن قوما من بقايا التتار قد مروا بها.
٣.على ضوء محاولات بعض الأصوات والتغريدات التي برزت تبرر لهؤلاء الإرهابيين فعلتهم النكراء وتحلل لهم قبح صنيعهم وبشاعة سلوكهم كان لا بد أن نوضح وجهة نظر القانون الدولي الإنساني فيما حدث في قرية ود النورة بمحلية القرشي التابعة لولاية الجزيرة.
٤.إن مصطلح القانون الدولي الإنساني هو مصطلح حديث نسبيا لا يتجاوز عمره بضع عقود (١٩٧١) ويقصد به بشكل عام “مجموعة القواعد والمبادئ التي تضع قيودا على استخدام القوة في وقت النزاع المسلح” والسبب في استخدام هذا المصطلح الجديد عوضا عن قانون الحرب أو قانون النزاعات المسلحة هو إبراز الطابع الإنساني الخالص لهذا القانون والذي يقوم على جملة من المبادئ هي: الإنسانية والتمييز والضرورة العسكرية والتناسب والاحتياط.
٦.في مبدأ الإنسانية لا يمكن الحديث عن قانون دولي إنساني دون التطرق الى الاصل وهو الإنسانية فالحرب هي حالة واقعية من صنع البشر لا تلغي الإنسانية وهو ما تؤكده بشكل واضح الأحكام الدولية عرفية كانت أم مكتوبة حيث تقتضي معاملة الضحايا معاملة إنسانية بالحفاظ على حياتهم وباحترام كرامتهم وشرفهم ودمهم ومالهم، فهل تطبيق مبدأ الإنسانية في قرية ود النورة وبالتالي معاملة سكانها المدنيين بإنسانية حفظت لهم كرامتهم ودماءهم و أموالهم ؟ الإجابة ومن خلال الوقائع المتوفرة أن الجناة قد قتلوا ما يزيد على مئتي شخص برئ من بينهم عدد (٣٥) طفل وطفلة وجرح عدد(١٠٠) آخرين، وما زالت الإحصائيات مستمرة، مع نهب أموالهم وممتلكاتهم وبالتالي فإن المبدأ الأساسي للقانون الدولي الإنساني”الإنسانية” لم يكن حاضراً لا في أذهان المهاجمين ولا في تخطيطهم ولا حتى في سلوكهم اللاحق والذي اتسم بالقسوة المفرطة باستخدام قوة مميتة لم تقتضيها أي ضرورة.
٧.أما مبدأ التمييز الذي ورد في المادة (٤٨) من بروتوكول جنيف الأول لسنة ١٩٧٧ والمادة (١٨) من البروتوكول الاضافي الثاني لسنة ١٩٧٧ والتي تنص على “تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية ومن ثم توجه عملياتها على الأهداف العسكرية فقط،،،وهذه القاعدة العرفية هي الأساس الذي تقوم عليه قوانين وأعراف الحرب وتدلُّ صياغتها بوضوح وإدراجها في معاهدة دولية على أهميتها مهما كانت أوضاع النزاع المسلح”دولي أو غير دولي”. فقاعدة التمييز تقتضي التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين من جهة وبين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية من جهة أخرى عدم استهداف المدنيين بالعمليات الحربية ومن أصبح غير قادر على القتال أي الجرحى والغرقى والمرضى وأسرى الحرب وأي شخص هابط بمظلة بعد إصابة طائرته…إلخ.
٨.إذا أردنا أن نفهم الأمر بشكل صحيح علينا أن نطرح سؤالاً مفاده هل كانت قرية ود النورة هدفاً عسكرياً؟وبالتالي تشكل مهاجمته ضرورة عسكرية ملحة تحقق للمهاجمين ميزةً عسكريةً ملموسة ومباشرة ومتوقعة وبدرجةٍ أكبر من أي خسائر تقع وسط السكان المدنيين والأعيان المدنية؟ ووفقا لتعريف الهدف العسكري الذي تناولته الفقرة الثانية من المادة (٥٢) من بروتكول جنيف الإضافي الأول لسنة ١٩٧٧ بأن الأهداف العسكرية فيما يتعلق بالأعيان:” هي تلك الأعيان التي تسهم بصورة فعالة في العمل العسكري سواء كان ذلك بطبيعتها (الدبابات مثلاً) أم بموقعها أم بغايتها أم باستخدامها والتي يحقق تدميرها التام أو الجزئي او الاستيلاء عليها في الظروف السائدة آنذاك ميزة عسكرية أكيدة” فهل كانت مواصفات الهدف العسكري تنطبق على قرية ود النورة؟
الواقع يقول أنّ قرية ود النّورة هي قرية يسكنها مدنيون ولم تكن موقعا عسكريا ولا تم استخدامها استخداماً عسكريا ولم تكن غايةإنشائها لغرض عسكري حتى تحقق للمهاجمين ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة ومتوقعة،،، فقد شهدنا كيف انتهى الهجوم بالقتل والنهب والسلب للضحايا المدنيين و لممتلكاتهم ومن ثم انسحاب القوة المهاجمة دون ان تتمسك بأرض القرية مما يدل على أن القرية لا تشكل هدفا عسكريا له قيمة ووزن تعبوي لدى المهاجمين وإنما كان الهدف من الهجوم هو قتل الناس وإرهابهم ونهب ممتلكاتهم وامتهان كرامتهم-كما جرت العادة وهو سلوك ممنهج وأسلوب مضطرد لهذه الجماعة المسلحة في كل موقع وصلته من الخرطوم إلى مدني إلى الجنينة ونيالا و زالنجي- وهو ما حدث بالضبط في قرية ود النورة وصدقته الوقائع الماثلة.
٩.أما مبدأ التناسب فيقتضي في حالة الهجوم على أهداف عسكريةتجنب إحداث خسائر في أرواح أو ممتلكات المدنيين فالوسيلة والقوة المستخدمة في الهجوم ينبغي ان تتناسب مع حجم القوة و التسليح الذي تمتلكه القوة المراد مهاجمتها وذلك لتجنب إحداث أي الآم وأضرار لا مبرر لها هذا الأمر متعلق بالأهداف العسكرية المشروعة وفي حالة الشك ما إذا كان الهدف مدني أو عسكري فإن القاعدة العامة في القانون الدولي الإنساني هي البناء على أن الهدف مدني وبالتالي يمنع الهجوم عليه !!! فالأعيان المدنية بما فيها القرى كقرية ود النورة ينبغي ألاّ تكون محلاً للهجوم أصلاً، ومع ذلك تم الهجوم عليها بقوة فيها دروع وأسلحة ذات أعيرة كبيرة من عيار ٢٣ مم إلى عيار ١٤.٥مم وعيار ١٢.٧مما يؤكد أن المهاجمين قاموا بالفعل المادي(الهجوم) وقصدوا إحداث هذه النتيجة (القتل والنهب) .
١٠.بإعمال هذه المبادئ التي سردناها أعلاه علاوة على مبدأ الاحتياط على الواقعة التي جرت في قرية ود النورة وحتى نكون موضوعيين تبرز الأسئلة التالية: هل خططت القوة التي هجمت على قرية ود النورة لهذه العملية من حيث تحديد الهدف بشكلٍ دقيق و قامت على ضوء ذلك بجمع المعلومات وتحليلها (تقييم صحيح و دقيق للمنطقة ،هل هي مبنية أم غير مبنية مثلاً؟هل هي وحدة مشاة او وحدة آلية ..الخ) وماهي الاحتياطات التي تم اتخاذها ؟ هل هناك ضرورة عسكرية للقيام بالهجوم؟ هل قرية ود النورة هي هدف عسكري؟هل تم اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة في اختيار أنواع الأسلحة المستخدمة في هذا الهجوم بحيث يتحقق الهدف وبأقل قدر ممكن من الخسائر ؟هل أعطت القوة المهاجمة إنذاراً مبكراً عن الهجوم للمدنيين الموجودين في القرية؟هل أجرت القوة المهاجمة تعديلات على عملية الهجوم حال تبين لها أن الهدف غير عسكري؟ إن الجواب على هذه الأسئلة والذي يصدقه واقع الحال المتمثل في إبادة هذا العدد الكبير من المدنيين هو أن أمرا كهذا لم يحدث وبالتالي فإن الهجوم كان متعمدا ومقصودا منه قتل المدنيين وترويعهم وترهيبهم ونهبهم كما جرت العادة عند المليشيا ويشكل ذلك جريمة حرب مكتملة الأركان بإتيان الفعل المادي(الهجوم) بقصد إحداث الأثر و النتيجة وباستخدام وسائل(أسلحة نوعية) قادت في نهاية المطاف إلى هذه المذبحة المروعة.
١١.إن إدعاء المليشيا بأنها قوة عسكرية تحترم القانون وقادرة على فرض النظام من خلال السيطرة على أفرادها يبقى مجرد فرية تكذبها هذه الواقعة وغيرها من وقائع كثيرة قامت بها منذ تمردها المشئوم صبيحة الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣م وعليه تبقى هذه القوة مجرد قوة إرهابية يشكل وجودها خطرا على السلم والأمن ليس في السودان فحسب وإنما على مستوى الإقليم والعالم كما يشكل تحديا من نوع خاص لقواعد القانون الدولي الإنساني التي تواثقت عليها الأمم واستقرت في ضمير الجماعة الدولية عبر القرون .
** دكتور معتز فضل فضل الله
المستشار القانوني والخبير في القانون الدولي
التعليقات مغلقة.