الدوحه_ الايام نيوز
عندما توقف قطار العام ٢٠٢٢ في محطته الأخيرة وريح شتاء اخر ايام شهر ديسمبر ترسل عواءها الحزين، حمل احد الركاب حقيبته ونزل، ومضى القطار فى طريقه، توقف الراكب على الرصيف متأملاً القطار الراحل وقلبه وعقله نهباً لخواطر شتى.
ولأن هذا الراكب قضى في جوف هذا القطار ما يربو على الأربعين عاما..
نعم أربعين عاما…
ولأني ركبت معه في بعض المحطات..
وقضيت معه أياما لا تنسي
ولاني كنت شاهداً على بعض حكايات السفر…
فقد رأيت ان أروى لكم القصة..
لأنها قصة حقيقيه…
ولكم استهوتني تلكم الأفلام والقصص التي توسم بهذه العبارة(عن قصة حقيقيه).
انها قصة تستحق ان تروى..
لأنها تحمل بين طياتها..
معاني
التضحية..
والكفاح..
والأمل..
الفرح..
والدموع..
وها انا ارويها..
وشتاء يناير في عام ١٩٥٨ يرسل زخات البرد في جزيرة مقاصر من أعمال دنقلا في شمال السودان، كان الحاج سعيد أحمد علاق يومها قلقا، حاله مثل حال كل من ينتظر مولوداً هو مولوده الأول.. قادم من رحم الغيب..
كان يدعو في صمت.. فهنا يجب على الرجال إخفاء عواطفهم فرضاً وليس نافله..
وجاءت البشرى..
(ولد)
تنفس الصعداء. .
رنا إلى السماء حمداً وشكراً..
وقال إسمه (محمد) ..
آملاً أن يكون محموداً فى الأرض والسماء..
مرت الايام..
انتفخ صدر النيل وفاض..
ورجع إلى مجراه مسافراً فى رحلة الأبد بلا تعب
وهل تتعب أنهار الجنة؟
سقطت نخلات..
ونمت أخرى..
هجرت بيوت وعمرت سواها..
ولد البعض ورحل آخرون..
وشب محمد سعيد أحمد علاق في جزيرة مقاصر.
شرب من نيلها وفيه سبح..
اكل من تمرها وفاكهتها حلالاً طيباً برزق الله ثم جهد والده الفلاح الطيب الذي يعطي الأرض جهده وعرقه فتؤتيه أكلها بإذن ربها.
وتفتحت عيناه على حضارة كانت في نواحيها هنا منذ ملايين السنين
عاش طفولته مثل أترابه فى ذاك الزمان..
حياة كانت فى معظمها قاسية
لكنها كانت إعداداً له لمجابهة رحلة طويلة لا تعرف الراحة..
وعندما آن أوان المدرسة دخل مدرسة مقاصر الإبتدائية، ومنها إلى مدرسة السير المتوسطة حيث عاش فى داخليتها لسنوات ثلاث..
وهو في هذا العمر الباكر كان يفكر بعقل أكبر من عمره..
رأى تعب والده، وريع الأرض الذي كان بالكاد يجلب الستر لأسرة قوامها سبعة افراد.
فاتخذ قراره..
قال :يا أبت أود أن أكون لك عوناً لا عليك عبئاً..
قال الاب :وما ذاك؟
قال :الرحيل يا أبي.. اعول نفسي وأدرس..
أين؟ الخرطوم..
وسها الاب بعيداً، في الحلق غصة وفي العين دمعة يحول دون نزولها شيئ من نفس ألفت عدم إظهار الضعف ورضاء وتسليم بالقضاء.. والأم في زاوية البيت تسمع، حليفها الصمت، والصمت سيد الموقف حين لا حيلة إلا الاستسلام للقدر..
الخرطوم بعيده..
ودونها صحراء العتمور.
ومفازات بيوضه.. والغربة قاسية لا ترحم …
وساد الصمت..
الا من وشوشات جريد نخلة في صحن الدار..
وبعدها بأيام سجلت دفاتر العام ١٩٧٤،مشهداً حزيناً..
جاء لورى (احمد خليفه) ذات صباح يسبقه صوت البوري حزيناً كأنه تراتيل الوداع..
وركب محمد سعيد يحمل أحزانه ومتاع قليل… ولعله وجد شيئاً من السلوي في رفقة صديقه يعقوب بشير.
ومضى اللوري مغادراً ارض النيل والنخيل في طواف اخير كطواف الوداع..
ودلف الي الصحراء..
وتلفت محمد سعيد…
رأى صخوراً سوداء كأنها قلب اللئيم..
ورمالاً صفراء كأنها بطون الحيات…
كانت الرحلة باللواري ايامها تستغرق أربعة او خمسة أيام..
وشغلته آلام الجسد عن آلام القلب… فاستلقي على ظهره مبتهلاً بخشوع إلى أشجان الوداع..
وتلقفته المدينة.. عالم جديد..
ليس صغيراً كجزيرته..
ولا الناس فيه طيبون كاهله..
ولا البيوت واسعة كتلك الواسعة هناك سعة مساحة الترحاب فيها…
ولكنه كان يعلم انه قدم إلى هنا لهدف..
آواه منزل خاله إبراهيم بمربع ٥ الحاج يوسف
ليبدأ أولى خطوات الرحلة فى عالم جديد.
ولأنه كان لابد أن يعول نفسه ويعين أهله ويدرس، عمل عاملاً بمحل توزيع غاز أجب في مدينة بحرى يعمل فيه منذ الصباح الباكر، فإذا جاءت الساعة الرابعة بدل ثيابه ومضى إلى المدرسة الثانويه..يغادرها في التاسعة مساء ليصل الي البيت عند العاشرة، ليس لينام، ولكن ليؤدى واجباته ويذاكر، يأخذ سنة من النوم ،فإذا إنبلج الفجر نهض ماضيا لعمله، وهكذا دواليك… ولأن الوقت لم يكن يكفي كان يغتنم هنيهات الوقت إذا قل العمل في المحل ليفتح كتابه ويذاكر، ويغتنم الجمعة لذلك أيضاً…
ولكم نام والكتاب على صدره مفتوح…
مفتوح كنافذة الأمل..
وعندما وصل إلى السنة الثالثه الثانوية عرف انه وصل إلى مفترق طرق.. فهذه سنة فارقه.. وهو قطع على نفسه وقطع لوالده عهداً.. وكأنه سمع صوت حميد يهمس في أذنه..
(يا يابا كان جيت وإيدي فاضي..
عارفك يا يابا ما راح تبقى راضى)..
أيقن ان عمله الحالى وصعوبته لن يجعله يصون العهد..
فسعى إلى بعض أقاربه للبحث عن حمل اخف… ولانه كان محفوفاً بدعاء الوالدين..
سعى به أحد أقاربه إلى مصلحة العمل فتم تعيينه في (وظيفة مراسله) والحق بمحكمة العمل في الخرطوم بحرى التي كان مقرها جوار مطعم الخيام الشهير..
ومن داخل المحكمة وعمله كمراسله جلس لامتحان الشهادة السودانية من مدرسة بحري التجارية..و استعان بالموظفين والمحامين الذين راوا فيه طموحاً وإصراراً على النجاح فأعانوه وما بخلوا..
وفي عام ١٩٧٨..شق صمت جزيرة مقاصر زغرودة فرح..
وسأل الناس عن السبب.. فتردد الخبر..
نجح محمد سعيد علاق فى الشهادة السودانية..
وتمايلت نخلات تعرفه ويعرفها، طرباً.
ولأن الشاب أصبح يحمل الشهادة السودانية وما اعظمها من شهادة في ذلك الوقت، طمح ان يكون موظفاً، ولم لا؟.
همس لقريبه محمد الامين خيري الموظف بإدارة المحاكم برغبته، فما خيب ظنه، وتم تعيينه موظفاً بالقضائية، وتم إبقاءه بذات المحكمة، فغدا حاجب الأمس الذي ينادي على القضايا، الفراش الذي كان يمسح المكتب، (موظفاً)، يأتي شخص آخر ينظف له مكتبه، ويعد القضايا ليتسلمها منه حاجب ينادى عليها..
وحادثة طريفة تحدث..
عندما تم تعيينه موظفا ،أصر أحد زملائه العمال ألا يبقي بالمحكمة وطلب نقله من المحكمة رافضا أن يعمل تحت إمرة زميله الذي كان بالأمس عاملا مثله ،ربما كانت الغيرة سببا ،وبعض الناس لايرى فيما يحدث حوله دافعا له ليحاكيه فيمضي بنفسه للأمام ،لكنه يرضي بالقعود حيث هو ،ولكن مالنا وماله ؟المهم أن صاحبنا الطموح حقق ما أراد فرح لذلك من فرح وغار من ذلك من غار ، والمهم أيضا انه
يومها شد الحاج سعيد أحمد علاق قامته،ومشي في شوارع القرية وقال لمن قابله من الناس أن إبنه محمد صار موظفاً…
ولكن هل انتهت القصة هنا؟
كلا والله..
نظر الموظف الجديد للمحامين والقضاة من رواد المحكمة، وقال لنفسه: ما الذي يمنعني ان اكون مثلهم..؟
وذكر وجه والده الفلاح الطيب، وأمه الصابره، ونظر في أوراقه فوجد ان نسبته تؤهله لدخول الجامعة، فحزم أمره وقدم طلباً لإدارة المحاكم للالتحاق بالجامعة مع عدم التفرغ فأذنت له، وقدم أوراقه إلى جامعة القاهرة بالخرطوم كلية الحقوق..
وان هى إلا أيام وظهرت النتيجة وقبلته الجامعه..
وبدات مرحلة جديدة من الكفاح..
والبحث عن طعم جديد للنجاح..
وغدا عامل محل الغاز..
مراسلة المحكمة..
الموظف..
غدا طالباً يدرس الحقوق في الجامعة..
سكن مع العمال والموظفين بالمحكمة..
وكي يوفق بين عمله والدراسة.. كان يستأذن زملاءه ليحضر المحاضرات نهاراً في مقابل ان يؤدى عنهم أعمالهم ليلاً…
فكان إذا جاء الليل وعم السكون مدينة بحري، شوهد محمد سعيد في مكتبه بالمحكمة منكباً على أعمال زملائه ينجزها لهم، ولربما سمع صوت باخرة تشق صمت الليل والنيل قرب المحكمة فذكر رائعة معاويه محمد نور (في الخرطوم خواطر وذكريات محزونة)…
وفي أكتوبر ١٩٨٦، كانت هناك أوراق عديدة تحمل اسماء طلاب الحقوق المتخرجين من جامعة القاهرة بالخرطوم معلقة على بورد الجامعة، ومن بين الاسماء:
الطالب محمد سعيد أحمد علاق، التقدير :جيد.
وانطلقت زغرودة في ذات البيت القديم بجزيرة مقاصر..
وتساءل الناس عن الخبر…
وخفف النيل من جريانه..
ثم صفقت أمواجه طرباً ومضى في رحلته الأبدية..
وشوهد الحاج سعيد يمشي مشدود القامة ويقول لأهل القرية إن إبنه محمد تخرج من الجامعة..
وفي كل هذه الرحلة لم ينس محمد سعيد وعده لأبيه..
هل تذكرون انه قال لأبيه سأكون لك عوناً؟
وقد اوفي بالوعد..
فى عام ١٩٨٥ وهو موظف بالمحكمة احضر أخاه من البلد وتولى امر دراسته بجامعة الخرطوم، ووقت كتابة هذه السطور يعمل هذا الأخ مترجماً بشركة أرامكو بالمملكة العربية السعودية، وتولى امر دراسة إخوته بدنقلا..
والتفت هامساً لحميد (الحمد لله ما جيت لأبوي وإيدي فاضي)..
الاعجب ، ان صديقنا عامل الغاز مراسلة المحكمة، الموظف كاد ان يصبح قاضياً، فبعد تخرجه في عام ١٩٨٦ جلس مباشرة لامتحان تنظيم مهنة القانون واجتازها، وفتحت أمامه الأبواب للعمل في اي مهنة قانونية يشاء، محامياً او قاضياً او مستشاراً، وفي عام ١٩٨٨ فتحت القضائية فرصة لاستيعاب قضاة فقدم صديقنا أوراقه، لكن تم ايقاف الأمر لظروف سياسية جرت بالبلاد وقتها.
وجاءت الفرصة في عام ١٩٩٣..
فتحت وزارة العدل فرصة لتعيين مستشارين قانونيين فقدم أوراقه…
وزغرودة أخرى في البيت القديم..
وهمست فروع شجرة النيم العتيق في صحن الدار لبعضها..
وتساءل الناس..
وشوهد الحاج سعيد شامخاً يمشي ويقول لأهل القرية إن إبنه محمد أصبح مستشاراً قانونياً بوزارة العدل..
نعم مستشارا قانونياً تدرج حتى وصل أعلى درجات سلمها..
مستشار قانوني عام..
عمل بالنيابة الجنائية..
وسعدت بأن عملت معه..
لأشهد شيئاً من هذا الشرف والتاريخ الباذخ..
كان في عمله… رفيقاَ بالناس شاكيهم ومتهمهم، ولكم شهدته يسعى بين الناس بالصلح، بحكمة ودراية، وكان ينجح..
وعاصرته وعرفته زميلاً وصديقاً وجاراً بل واخاً لى. وعرفته باراً بأهله، مواصلاً لهم، ساعياً في أمورهم ومصالحهم بلا كلل، بشوشاً متفائلاً في أحلك الظروف عرفته بينهم محترماً، محبوباً مبجلاً، وبين زملائه ناشراً للفرح.
وبعد فهو لم ينس زملاءه العمال القدامى بمحكمة العمل.. فما زالت علاقته بهم قائمة وحميمه حتى وقت كتابة هذه السطور، يزورهم ويزورنه.
عمل محمد سعيد علاق كذلك مستشاراً لعدد من الجهات الحكومية فكان فيها مثالاً للخبرة والنجاح والاحترام للجميع.
ولم يتوقف ففي عام ٢٠٠٠ حصل على الدبلوم العالي في القانون من كلية الدراسات العليا جامعة الخرطوم
ومرت السنوات..
خمسة وأربعين عاماً قضاها محمد سعيد علاق في الخدمة المدنية سنتين عاملاً بمصلحة العمل ، ثلاثة عشر عاماً موظفاً بالمحاكم، ثلاثين عاماً مستشاراً قانونياً بوزارة العدل.
رحلة من الكفاح تستحق ان تروى..
لتقول للناس (لو تعلقت همة ابن آدم بالثريا لنالها).
وعندما حلت نهاية العام ٢٠٢٢ كان محمد سعيد علاق يترجل عن صهوة جواد الخدمة المدنية، راضياً عفيفاً نظيفاً، سلم وظيفته كما استلمها (زى صحن الصيني لا شق ولا طق)..
يا صديقي وأخي علاق… لقد وعدتك ان اكتب قصتك.. وحاولت ان تثنيني عن الفكرة، ولكن كان لابد أن أفعل..كتبتها وغلبتني دموعي عند بعض السطور ولا أدري السبب…
وما قلته اقل مما يفترض ان يكون فما أعلمه عنك خاصة فى الجوانب الإنسانية كثير كثير.. لقد كان واجباً علي أن أروى.. وفاءاً وعرفاناً فكم كانت وقفاتك معنا انا وكل من عملوا معك، في العمل وفي عموم الحياة ونصائحك لنا زاداً ونبراساً ومنارات لنا هدتنا إلى الطريق، فحيث ما أردناك وجدناك..
والرحلة لم تنتهي بانتهاء الوظيفة… فعندك الكثير لتعطيه..
دمت بخير يا صديقي.
” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ‘
ابراهيم قسم السيد.
الدوحه.
٢٣ يناير ٢٠٢٣.
التعليقات مغلقة.