رقصه المردوم
الخرطوم :الايام نيوز
مليح يعقوب حماد
شاعر و ملحن و باحث في التراث
تعتبر رقصة المردوم من أشهر الرقصات الشعبية عند البقارة. ومنتشرة بكثافة عند مجموعات الحوازمة و المسيرية ،وأولاد حميد والكنانه.وعند كثير من المجموعات الرعوية في كردفان و دارفور والنيلين الأبيض والأزرق و أجزاء من دولتي تشاد وأفريقيا الوسطي . انتقلت شفاهيا من منطقة لاخري ،عن طريق التأثير والتأثر والتعايش الي ان اصبحت رقصة قومية محبوبة للسودانيين .وقد أثبتت رقصة المردوم جدارتها عبر المدي الطويل لتمتعها بميزة الاستمرارية (المواكبة) حيث تطور الأداء بشكل خرافي لا يكمن أن يتصوره الإنسان _ خاصة عند قبائل (المسيرية و الحوازمة) . إن جوهر أغنيات المردوم النصح ، و الإرشاد ، عن طريق المدح و الذم (المشكار و المعيار) ، و في ظاهرها اللعب (الترويح عن النفس : ماشين اللعب) . و فيها حث الشباب على العمل ، و الزواج ، و الفروسية و الكرم ، و التحلي بالصبر و الحكمة . و ابتكر العطاوة _ البقارة رقصتهم من جكة التور و حركة الحصان (Horse movement) ، بداية بغناء الفنجفان ، ثم تمرحلت إلى غناء المردوع وصولاً إلى المردوم و أسلوبه الجماعي (بنات و أولاد) ؛ البنات يقمن بالتصفيق و الغناء معاََ ، و يشارك بعضهن في الرقص أثناء مرور الروق (صف الصبيان) أمامهن ، و يصطففن في شكل قوس نصف دائري أو في خط مستقيم . و في غناء المردوم أسرار و خفايا عديدة ، كوقوف البنات باتجاه الشرق (صباح) تجاه القبلة : لسببين الأول تحاشياََ لأشعة الشمس الحارقة و يجعلنها خلف ظهورهن حيث يبدأ الرقص أحيانا بعد الظهيرة (قيلة العريس) ، و السبب الثاني شوقاً و حنيناََ للجزيرة العربية (أرض الجدود) التي هاجر منها عرب جهينة إلى شمال ، و وسط و غرب ، إفريقيا منذ القرن الرابع عشر وبعد انهيار دولتهم الإسلامية في الأندلس . و يلعب المردوم عادة على أرض نقعة (قرود) أو علي تربة جافة أو صلبة حرصاََ على وضوح الإيقاع (صوت الأرجل) ، و تفادياََ لتصاعد الغبار الناتج عن ضرب الأرجل . و يستعين الراقصون بالعصي ، و أم كرتبو و الفرار التلوداي و القرجة ، و غيرها من الأدوات المكملة للمظهر . و البنات يلتزمن الزي الشعبي المستخدم في النقارة ، أيضاََ ، مع تأنقهن التام بشتي أنواع الحلي و الزينة (الأكسسوارات الشعبية) مثل السكسك و التمايم و ريش النعام و الكشكوش و الودع و الغوايش و الشف و الشنيف و العاج ، و يتلطف الجو بشتي أنواع العطور إذ تتوشح ضفائر البنات بالتربلول . و ينقسمن إلى حكامات و شيالات يتشاطرن معاََ أداء الأغنية. و هي عبارة عن بيت شعر أو مقطع واحد يردد بالتناوب و على نحو متواصل إلى أن يتم الانتقال إلى الأغنية التي تليها ، و هكذا يستمر الحال شريطة الالتزام باللهجة العربية العطوية و الجنيديه أو الكردفانية المتوافقة مع طبيعة اللحن. و في الأغنية تنسجم الأصوات و يتناغم الهارموني و تظهر ملامح السلم الموسيقي العربي (السباعي أو السداسي) الحنين و العاطفي الذي يتسرب إلى قلوب الحاضرين دونما استئذان. و ينتشر المقام الموسيقي العربي عند قبائل البقارة في غرب السودان بالإضافة إلى الرشايدة في الشرق مع التباين و الإختلاف في خصوصية التمتمة. و عندما يسمع الصبيان غناء المردوم يتركون كل شئ و يتجهون مسرعين صوب ساحة اللعب التي ليس فيها متفرج ؛ إذ يتفاعل الجميع مع الأداء حماساََ ، و يتعزز الشعور بينهم بالانتماء . و ترى كبار النساء و الحبوبات وقوفاََ وراء الحكامات ، بهدف التنبيه والتصحيح . و يرقص الشبان ، في مجموعات منافسة ، و لا يشترط أن يكونوا من قبيل واحد ، أو بطن أو فخذ أو خشم بيت واحد ، بل يفسح المجال للكل للمشاركة الحرة ليس فيها من قيد إلا اشتراط الانضباط بقواعد اللعبة. و تتباري جماعات الشباب في النقعة _ الدارة ، حسب الترتيب أو حسب الأسبقية الزمانية أو المكانية ، و لكل مجموعة قائد يضبط حركة الإيقاع بقيادة التشكيل في شكل رتل منفرد غالباََ ، و المجموعة التي تبتدر اللعب تتحرك في توافق بضربات الأرجل مع الصفقة و الغناء ، و عند بلوغ الروق (الصف) إلى منتصف القوس تحدث بعض الفواصل الإبداعية ،وهي عرضية و تكميلية متقطعة هنا و هناك ، و غالباً ما تاتي في شكل مداخلات فنية من قبل بعض الشباب ، و تسمي *بالخلفة* ( Lavary) فوق الزمن الأساسي ، و عكس حركة الروق ، و يطلقون عليها *توريد الكمشة أو شراب ألمي*، و تظهر فيها المهارات الفردية الخاصة التي تمكن صاحبها من الحصول على الشبال . و المردوم ينقسم إلى نوعين حازمي و مسيري . و يتميز المردوم الحازمي بأنه تقيل و رايق يعتمد على القوة ، و فيه ظهور الكلمات و مخارج الحروف بشكل واضح في الأغنية . و غناء الحازميات هادي يغلب عليه الطابع السماعي حيث لا يستخدمن الهمهمة إلا في مواضع معينة عند الضرورة القصوى ، و يعزى سبب ذلك لكون الحوازمة أكثر استقراراََ نسبياً ، و تتحرك ضعائنهم في مسارات و مراحيل معينة ، و يسيرون مسافات محدودة ذهاباً و إياباََ في مواسم الخريف . و من أشكال المردوم الحازمي الكادر و الكرفاي و القانش و الرديف. و أما المردوم المسيري فخفيف و استعراضي يميل إلى السرعة و الرشاقة وهو عبارة عن مسرح فلكلوري متكامل . ونجد ان المسيريات عند غناءهن للمردوم ياكلن الكلام في بعض الأحيان مع وجود الهمهمة ، و سبب ذلك أن المسيريه أكثر حركةََ و ترحالاََ من الحوازمة فهم على عجل ، و أثناء الختيت ، النزل ، بالهم في الرحيل و المسار . و تتطابق القبيلتان ، الحوازمة و المسيرية ، في الميزان و الإيقاع و الصفقة و الزي و الأكسسوار ، و يمكن لشباب الحوازمة الرقص مع المسيريات ، و العكس صحيح ، مع احتفاظ كل منهم بخصوصية الأداء _ أي الرقص _ و يلعب المردوم في العرس و الطهور ، و الأعياد و عند عودة الحجيج ، و عند رجوع المغترب (المسافر) ، و في بعض المناسبات الخاصة و العامة . و من أشهر الحكامات حوة السافنجة ، و رخية المايقوما ، و الشباية ، و زهرة الضو ، و القرقر ، و من أطرف الراقصين المكي مقدم (عزيبة) ، و برز منهم حامد المجروس ، و من أميزهم عيسي الراجمة الذي ترتفع طاقيته المشهورة في الهواء علواََ أثناء رقصه إلى أعلى مستوياتها ثم تعود لمستقرها (فوق رأسه) دون أن تقع على الأرض ، أو أن يلتفت إليها ، مواصلاََ أدائه المميز الذي يدخل البهجة و المسرة في نفوس الناس ، و كلهم فرح يعلق و يشكر . و من أغنيات المردوم ( _جدي السمري لونه ، الناس ساروا خلوني _ تومي_) . و في غير كردفان المردوم موجود في عدة مناطق في السودان ، كدارفور خاصة عند المسيرية ، و عند الحوازمة في منطقة الخروب و سنجيوة ، كما يوجد في أجزاء متفرقة من دولة تشاد عند الحوازمة _ دار جواد في منطقه أم التيمان . و غناء المردوم وصل إلى إذاعة ام درمان منذ وقت مبكر ، و سبق في وصوله إليها عدداََ كبيراً من الإيقاعات العطوية ، مثل الدرملي و المردمة و القيدومة و الكاتم و السنجك و العريج و أم رقيبات و أم بقو و أم بري بري . إلخ .و المردوم وجد حظه من الانتشار بفعل ظهور الرعيل الأول من رواد الفن الكردفاني ، و أبرزهم الفنان الراحل المقيم إبراهيم موسي أبا (مطرب المطربين) ، و الفنان الراحل المقيم عباس عبدو ، و الدكتور عبد القادر سالم (ملك المردوم king of mardoom) ، و هم الذين قاموا بنقله من مرحلة الأغنية الشعبية التقليدية (بيت شعر أو مقطع واحد يتكرر) إلى مرحلة الأغنية الحديثة التي تتكون من ستة ابيات فما فوق . و يشترط في أغنية المردوم أن يتوافق النص مع خصوصية الإيقاع و أن يتعمق الشاعر في مفردات البيئة و يلتزم اللهجة الكردفانية عوضاََ عن تطور الخيال اللحني عند الملحن . و الأصل في تأليف غناء المردوم هو المرأة (الحكامة) و لما كان للضرورة أحكام فقد برز العديد من الشعراء و الملحنين و الفنانين الذين اجتهدوا ، كل في مجاله ، حتي أصبح غناء المردوم مواكباََ للتطور المحلي و العالمي. الشعراء والملحنين الذين اهتموا بأغنية المردوم لايمكن حصرهم ولكني اذكر منهم عبد الله الكاظم وسليمان قناوي ومحمداني مدني وحامد جاجا وغيرهم. ومع أهمية ذلك أرى أنه لابد من رعاية التراث الشعبي علي أرض الواقع ، في البوادي و القري و الفرقان ، باعتبار أن ذلك هو المنهل الحقيقي و المدرسة الواقعية التي تخرج آلاف المبدعين فضلا عن حماية القيم و الموروثات و التقاليد التي تقف سداََ منيعاََ امام الغزو الثقافي الأجنبي . و يعاب على الموسيقيين ، خاصة الدارسين منهم و الباحثين و عازفي الآلات الايقاعية (الكنقا و الطبلة و الدرامز و الباركشن و الدنب و الزغب و الدقش) ، أنهم لم يجهدوا أنفسهم مشقة البحث عن بقية الأشكال الايقاعية الموجودة في البيئة بل اكتفوا فقط بعزف الشكلين المعروفين ، لدي غالبية الوسط الفني ، اللذين وصلا عن طريق الرعيل الأول من فناني كردفان . و في الواقع توجد عدة أشكال لايقاع المردوم تتباين فيما بينها داخل الميزان ، و تتجدد من حين إلى آخر لرغبة الشباب (الصبيان) في اكتشاف أساليب جديدة في الرقص و الاستعراض تجديداََ و كسراََ للروتين ، و تفادياً للملل الناشئ عن التكرار ، و من تلك الأشكال القانش و الرديف عند الحوازمة ، بالإضافة لوجود عدد مهول من الأشكال (أساليب الرقص) عند شباب المسيرية مع سهولة ترجمتها إلى واقع ملموس يسهم في إثراء الساحة الفنية. و لضبط ايقاع المردوم يستخدم الشبان الأرجل و الكشكوش و الصفافير و الكرير (و الكرير في أصله صوت الثور) و المراكيب . و الحكامات يعتمدن الصفقة أثناء الغناء .و أغنيات المردوم انتشرت واسعاََ لتتجاوز حدود الوطن ، حتى تغنى بها عدد وافر من المطربين الأجانب آخرهم الفنانة الإسرائيلية رحيلة ، بفعل الأسطوانات التي تم تسجيلها في أوربا بالإضافة للرحلات الفنية الخارجية فضلاََ عن استمرارية عملية تواصل الأجيال التي انتجت جيلاََ طموحاََ له القدرة علي مواصلة المسير ، مثال الفنانة الاستعراضية شادن محمد حسين ( _سبارة أنا بغني بشكر في عيالي_) ، و الفنان الكبير هاشم بابنوسة ( _خيولنا الزينات قلاعات اللجم بنات سعدان اليوم فزعن لما عجاج الخيل توه فوقنا كتم_) ، و الفنان علي الرهيد ( _الضامر انشده في المرين هدا سرجك اب غردة مابشيلوه العدة_) ، و الفنان الكبير محمود الكردفاني (الشوقارة) ، والفنان الخلوق سليمان أحمد عمر(حوالي الساعة خمسة طريتا شغل عقلي ودو السلام لي روحي الفارقتني) و القائمة تطول. ولا يفوتني تثمين الدور الفاعل الذي يلعبه الشعراء ، و الملحنون و النقاد و الباحثون ، و كل المهتمين بتطوير التراث و الفلكلور الشعبي .
التعليقات مغلقة.