مشاهد محمد الطيب عابدين شهوة الكلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهد
محمد الطيب عابدين
يعرف اللغوين الشهوة وجمعها
أشهية : جمع شَهوة
شَهْوة : مصدر شَها
شَهوَة : مصدر شَهَى
الجمع : شَهَوات ، و أشهيةٌ ، و شُهًى
الشَّهوةُ : الرغبة الشديدة
الشَّهوةُ :ما يُشْتَهَى من الملذَّات المادية .
و منها : اِشتِهاء أشهية تَشَهَّى تشَهّي شَهِيّ شَهْوان شَهْوة شَهْوى شَها شَهاوَى شَهاوة شَهوَ شَهوانيّ شَهوانيّة شَهيّة شُهًى شاهية مَشْهِيّ مُتشهٍّ مُتشهّى مُتشهّي مُشتَه مُشتَهَى مُشهٍّ مُشهّى مشْهُوّ .
و في المصطلح :
الشَهْوَة أو التَوْق هي قوةٌ نفسيةٌ تؤدي إلى رغبةٍ شديدةٍ لشيء ما أو ظرفٍ يُرضي الشعور، بينما يكون الشخص يمتلك بالفعل شيئًا هامًا آخر أو كميةً من شيءٍ مطلوب. للشهوة أشكالٌ متنوعةٌ مثل الرغبة الجنسية والحب والمال والقوة. وقد تأتي بأشكالٍ عاديةٍ مثل شهوة الطعام (طالع الشراهة) وهي مختلفة عن الحاجة إلى الطعام .
و في الكلام جاء :
الكلام (المفرد: كَلِمَة) في اصطلاح النحويين، هو اللفظ المفيد فائدة يحسُن السكوت عليه، نحو: جاء زيدٌ، هذا طالبٌ مجتهدٌ .
الكلام النحوي وشروطه :
يُشترط في علم النحو في الكلام أربعة أشياء:
١ – أن يكون لفظًا، واللفظ هو الصوت الذي يشتمل على حرف من حروف اللغة العربية .
٢ -أن يكون مركبًا من كلمتين أو أكثر، حقيقة أو تقديراً.
٣ – أن يكون مُفيدًا، أي تام الإفادة.
٤ – أن تكون الألفاظ المستعملة في الكلام من الألفاظ التي وضعتها العرب للدّلالة على معنى من المعاني .
حسناً ، وهل للكلام شهوة ؟
يقول عبد الله عيسى السلامة :
” قد يبتلى شخص ما ، بشهوة الكلام ، وتسيطر عليه ، فتصبح مرضاً نفسياً ، لديه ، فلا يترك مجلساً ، يجلس فيه ، دون أن يستأثر بالكلام ، كلّه ، دون النظر، إلى نوعيات الجالسين فيه ، أو حاجاتهم ، إلى التحدّث ، فيما بينهم ! ولا يدع لأحد ، مجالاً ، لأن يتفوّه ، بكلمة واحدة ، دون أن يقاطعه ، مسترسلاً ، في الموضوع ، ذاته ، الذي يحاول الشخص طرحه ، أو في موضوع آخر، يروق له الحديث فيه .. دون مراعاة ، لمشاعر الآخرين ، أو أوقاتهم ، أو نظرات التذمّر والاشمئزاز، الموجّهة ، منهم ، إليه ! .
وقد جاء ، في كتاب ( كيف تكسب الأصدقاء ، وتؤثّر في الناس ) ، الصادر، عن مؤسّسة (ديل كارنيجي): أنّ مِن حسن العلاقة ، مع الناس ، إسماعهم كلاماً، يهمّ الحاضرين ، جميعاً، أوأكثرهم ! أمّا الكلام ، الذي لايهمّ ، سوى صاحبه ، في مجلس عامّ ، فهو مُناف للخُلق والذوق ، ويستثير المشاعر السلبية المختلفة ، لدى الحاضرين ، تجاه المتكلّم ! حتى لو تحاور اثنان ، في موضوع ، لايهمّ سواهما !
وتتفرّع شهوة الكلام ، إلى فروع عدّة ، لدى الأشخاص ، المبتلَين بها .. منها :
شهوة الكلام النافع، بأنواعه : كان أحد الفضلاء ، ينتهز أيّة فرصة ، تتاح له ، في أيّ مجلس، أوحفل ، أومؤتمر، أومنتدى .. ليأخذ زمام الكلام ؛ فلا يدع ، لأحد ، أيّة فرصة ، لقول كلمة واحدة ، طوال الوقت ! وكان فصيحاً ، واسع الثقافة ، شديد النهم للقراءة ، في سائر أنواعها ، من أدب وتاريخ ، وسواهما ! وكان يعرف ، أن لديه هذا المرض النفسي ؛ فكان يعتذر، لسامعيه، في كل تجمّع يحضره ، قائلاً : أرجو عدم المؤاخذة ؛ فأنا مبتلى بشهوة الكلام ! إلاّ أن الذين يحضرون مجالسه ، وندواته ، قلّما يشعرون ، بأن أوقاتهم تهدر؛ لأن الرجل يمزج ، بين الفائدة والمتعة ، في كلّ مايقول! فهوينتقل ، من طرفة لطيفة ، إلى معلومة نافعة ، إلى حكمة بليغة .. وينوّع بين الشعر والنثر ، فقلّما يملّ أحد ، من كلامه ! .
فهذا نموذج مميّز فريد ، بين المبتلَين بشهوة الكلام ! .
أمّا الأنواع الأُخرى ، لشهوة الكلام ، فنادراً ، مايكون فيها النافع ، أو الممتع ، غير المؤذي! ومن أبرز مايصادفه المرء ، من هذه الأنواع
شهوة اللغو والثرثرة ، بلا طائل : وهذه تضيع أوقات الناس ، دون أيّة فائدة لهم ، منها ، ودون تحصيل أيّة متعة نفسية ، أوعقلية ! .
شهوة التظاهر: بالعلم ، أو بالجاه ، أو بالثراء ! وهذه موجودة ، لدى الكثيرين ، من المبتلَين بشهوة الكلام ! وقد تخلو، من إيذاء أحد ، حاضراً كان ، أم غائباً .. لكنها قلّما تفيد أحداً ، من الحاضرين ، أو تهمّ أحداً منهم ! .
شهوة الغيبة والنميمة : وهذه كثيرة ، لدى بعض المبتلين ، بشهوة الكلام ! وهي من أخطر الشهوات ، وأشدّها إيذاء للنفوس ، وإفساداً للعلاقات ، بين الناس ! مع أنّ المبتلَين بها ، يجدون ، في أنفسهم ، متعة قويّة ، وراحة كبيرة ، لنفسياتهم المريضة ! .
ومثل هذه الشهوة ، من حيث كثرة الضرر، وقلّة النفع : شهوة الأذى ، بأنواعه : الشتم ، والقدح ، والسخرية الجارحة ، وكيل أنواع التّهم للناس ، بالباطل ، دون أيّ دليل ، وبلا أيّ وازع ، أو رادع ! . “
( راجع : عبد الله عيسى السلامة – شهوة الكلام ) .
ما هي الثرثرة ؟ :
الثرثرة هي كثرة الكلام، وهي داء ومرض خطير يصيب الكثير من الناس، رجالا ونساءً على السواء. وفي الثرثرة خروج عن الحد المسموح به من الكلام، وعن ضوابطه أيضا. وهي تصيب الكثير من الناس، لدرجة أن هؤلاء لا يستطيعون العيش من دون ثرثرة.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول، “ إذا تحدث أحدكم فليقل خيرا أو ليصمت”، وهذا دليل على خطورة الكلام غير المنضبط، وعلى ضرورة حفظ اللسان، لأن الكثير من المشاكل تنجم عن عدم ضبط اللسان.
وفي هذا يقول استشاري الاجتماع الأسري، مفيد سرحان “ الأصل أن يكون الكلام بمقدار الحاجة، وبما لا يضر بالآخرين أو بسمعتهم، وأن لا يكون فيه إساءة أو تجريح، وأن لا يتحدث الإنسان إلا بما ينفع، وأن يقلل من المزاح، لأن كثرة المزاح قد تؤدي إلى مشكلات بين الناس، وكثرة الكلام كثيرا ما تكشف العيوب، وتزيد من إمكانية الوقوع في الخطأ. فكلما كثر الكلام زاد الخطأ”.
من هم اكثر الشعوب كلاماً ؟
اجريت دراسه حول العالم عن الشعوب الاكثر كلامآ واتت نتائج الدراسه على النحو الاتي : الشعوب في اسيا فوق المتوسط بمعدل : 15000 كلمه في اليوم .
الشعوب في اوروبا شبه المتوسط بمعدل : 10000 كلمه في اليوم .
الشعوب في الامريكتين دون المتوسط بمعدل : 7000 كلمه في اليوم.
الشعوب في افريقيا هي اكثر الشعوب ثرثره بمعدل : 20000 كلمه في اليوم وعند تعميق البحوث رأوا أن العرب هم الاكثر ثرثرة بالعالم وخاصه الشعب المصري.
و قد رأى الباحثون ان المرأه الخليجيه تتكلم في اليوم اكثر من 16000 كلمه .
والمرأه الشاميه تتكلم في اليوم اكثر من 12000 كلمه .
والمرأه المصرية تتكلم في اليوم اكثر من 24000 كلمه .
والمرأه الافريقية تتكلم في اليوم اكثر من 22000 كلمه .
والمرأه الأوروبية تتكلم في اليوم اكثر من 10000 كلمه .
والمرأه الأمريكيه تتكلم في اليوم اكثر من 4000 كلمه والمرأه الاسويه تتكلم في اليوم .
إلا أن بعض الدراسات تؤكد أن الشعب الفرنسي هو الأكثر و الأسرع كلاماً في العالم .
تمظهرات شهوة الكلام في المجتمع السوداني:
تبدو أكثر مظاهر شهوة الكلام في المجتمع السوداني في الإجتماعات و التجمعات، إذ مازال البعض يظن أن مشاركته في أي إجتماع لا تتم و لا تكتمل إلا إذا تحدث قائلاً قائلته و إن كانت ( أي كلام )، فالمهم أن يقول شيئاً .
و يقف أخر مبتدراً حديثه : *( انا ما عندي كلام .. ولكن ... ثم يتحدث حتى يوقفه مترئس الإجتماع )* .
و يظل أحدهم يلح و يُصٌر على طلب فرصة للحديث ، ثم يجتر حديث من سبقوه حذوة المنكب بالمنكب دون أدنى أي إضافة .
وذلك الذي يثرثر حتى يمل الناس مؤيداً هذا ، مؤكداً صحة كلام ذاك ، و مردداً ذات كلام أخر، كأنه جهاز تسجيل يعيد ما في جوفه من مادة مسجلة مسبقاً .
و في المجالس يظل الرجل ممسكاً بتلابيب المجلس لا فكاك منه ، يتحدث وحده ، يخرج من موضوع ليلج في آخر ، يتكلم دون إنقطاع في كل شئ ، وهو يبدي تظرفاً يمقته البعض ، غلبته شهوة الكلام ، يظل يثرثر كأنه مذياع خرب . و ذاك يحشو هاتفه بالمال ليتصل في وقت فراغه يحادث هذا في السياسة ، و يكلم ذاك في كرة القدم، ما فتئ يثرثر حتى ينفد رصيده من المال و لم تفرغ شهوته للكلام .
أما عالم الإتصالات والجوالات والكمبيوتر والانترنت و وسائط الإتصال فقد حفلت بكثرة الكلام المنطوق و المكتوب المتواصل كالسيل العرم لا إنقطاع له ، غثه أكثر من ثمينه ، و وباله أكبر من نعمه ، و شره يغلب على خيره ، أناس غطت شهوة الكلام في المجتمع الافتراضي على قلوبهم فطفقوا يرددون و يرسلون دون تدبر فيما يفعلون .
شهوة الكلام ثقافة عربية خالصة :
تحت هذا العنوان يقول عاطف محمد عبدالمجيد :
(( ليس لنا الحق في أن نقول كل شيء عن أي شيء، دون علم وخبرة ودراسة ووعي وفهْم لما يُراد الحديث عنه، أو التباحث فيه )).
الاستبداد السياسي والاجتماعي و أثره في شهوة الكلام:
ربما يكون له أثر كبير في تنامي شهوة الكلام لدى المجتمعات العربية و هي مجتمعات مهووسة باللغة والاشتغال عليها من حيث التركيب والمعنى و تعطيل مشاريع التحضر والتقدم بهدف خدمة الإنسان والحفاظ على كرامته .
يقول الراحل غرم الله حمدان الصقاعي في كتابه ” شهوة الكلام.. الذهنية البدوية والتصحر الثقافي” الصادر عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر.
الصقاعي بعد أن يفتتح كتابه بمقولة لـ رسول حمزاتوف يقول فيها: ” البعض يُكثر من الكلام، لا لكثرة الأفكار، بل لأن هناك حَكّة في طرف لسانه“، يتمنى أن ندرك أنه ليس لنا الحق في أن نقول كل شيء عن أي شيء، دون علم وخبرة ودراسة ووعي وفهْم لما يُراد الحديث عنه، أو التباحث فيه.
بعد ذلك يتساءل كيف بنا ونحن نناقش قضايا اجتماعية لها أسبابها ونتائجها المعرفية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ومع هذا نقول كل شيء في أي شيء دون أن ننتهي إلى شيء ! .
الصقاعي يرى أن الاستبداد السياسي والاجتماعي ربما يكون له أثر كبير في تنامي شهوة الكلام، ومع ذلك يظل، لدى المجتمع، العجزُ الكبير عن الإيمان بالثقافة والاشتغال عليها كَهَمٍّ إنساني عام، يقوم على التعدد والتنوع والاختلاف، هو السر في هذا التصحر الثقافي، ما أنتج مقلدين للماضي أو للغرب، يعيشون في صراع دائم ومستمر على الأفضلية المزعومة، بعيدًا عن القيم الإنسانية العليا، وإنتاج المعرفة النافعة لمشاركة العالم ثورته العلمية والثقافية.
ويضيف الصقاعي قائلًاً : *إن هذه هي الأزمة التي تمر بها الكلمة عندنا، بحيث أصبحت حقًّا مشاعًا للجميع، يقولون ما يشتهون دون رقيب، ودون تأنيب للضمير، بعد أن أصبحت شهوة الكلام ثقافة عربية خالصة، تقوم على الكلام وليس غيره*.
يرى الصقاعي أن *شهوة الكلام كانت في ما مضى نتيجة للأمية والجهل، باعتبار الكلام الوسيلة الأُم لإيصال الرسائل، للحفظ وتواتر النقل*، ورغم أننا دخلنا إلى عصر التعليم والكتابة، لكن ليس هناك تغيير كبير يُذكر، إذ بقى الكلام هو المُنتَج الشاهد لكل فعل ثقافي، وذلك *من خلال المنابر، وهذا ما صنع شهوة الكلام عند الجميع*، لقد بتنا نجد الكل ينتقد ويتحدث في كل علم، وكل فن، بغير علم، يتحدثون لإثبات الحضور والمشاركة فقط، وفي هذا تظهر رغبة الجميع في الكلام.
من هنا يؤكد الصقاعي على أن المجتمعات العربية عبر تاريخها الطويل هي مجتمعات مهووسة باللغة والاشتغال عليها من حيث التركيب والمعنى، والشعر كوعاء يحفظها ويساعد على توارثها من جيل إلى جيل، ومن هنا جاء اهتمام هذه المجتمعات بميلاد الشعراء، الذين تُمجد من خلالهم الكلام.
الصقاعي يقول إن مفكرين كثيرين يعتقدون أن وسائل الاتصال الحديثة ساهمت كثيرًا في تنامي حرية البوح والكتابة والقول، دون تأثير معرفي أو قِيَمي، لكنها سهلت لذلك وتركت الأبواب مُشرَعة للقول، ولعلّ ما يحدث في قنواتنا الفضائية من تصارع وتصادم وضجيج، خير دليل على شهوة الكلام.
الصقاعي يرى أن شهوة الكلام هي غريزة إنسانية تجعل الإنسان يتخلى عن العقل غالبًا ليحتكم إلى عواطفه في إصدار أحكامه أو بيان مواقفه مستخدمًا اللغة، منطوقة أو مكتوبة، سلاحًا للوصول إلى المشاركة في المختلَف عليه دون وعي أو علم، ولكن بهدف المشاركة وإثبات أنه حي يتنفس كلامًا ويشتهي أن يبقى في دائرة الضوء من خلال الكلام فقط.
وهذا ما يسميه المؤلف بثقافة ” قلتم ونقول” التي يوجد فيها كل تعصب وتشنج يُشخّص واقعًا ثقافيًّا يميل إلى الجدال وليس الحوار، وإلى الخلاف وليس الاختلاف، وإلى العداوة والانقسام وليس الحب والاكتمال. كما يصف الجميع بأنهم قبيلة قولية لا يختلف فيها من اعتلوا منابر المساجد عمن احتلوا أعمدة الصحف ومنابر المؤسسات الثقافية، في الاهتمام بالكلام تقودهم شهوة الكلام ويغيب عنهم جميعًا العمل أو السلوك الفعلي الذي هو أكثر أثرًا في الناس وفي تسيير دفة المجتمع.
أكثر الشعوب ثرثرة في الهاتف و الانترت :
نشر فهد عامر الأحمدي مقالة بعنوان :
هل هناك شعوب ثرثارة وشعوب عملية؟ :
هل هناك أمم تعشق الجدل وأخرى يشغلها العمل؟
يقول فهد، شركات الاتصالات العالمية تملك إحصائيات دقيقة عن أكثر الشعوب ثرثرة وحديثاً عبر الهاتف ( *من حيث متوسط الوقت لكل مستخدم*).. ادخل عنوان المقال ذاته في جوجل لتكتشف أن *العرب والأفارقة يأتون دائما في المركز الأول*، في حين تأتي *الشعوب الصناعية في المركز الأخير* في نسبة الثرثرة والحديث عبر الهاتف.
غير أن حديثي اليوم لا يتعلق بالإحصائيات بقدر مساوئ الثرثرة ودلالاتها الشخصية والاجتماعية.. فمن المؤكد أن ضعف الزاد وقلة الانجاز يُعوضان دائماً بالثرثرة الفارغة والتباهي الكذاب.. انظر حولك لن تجد أكثر ثرثرة من شباب عاطلين، أو شيبان متقاعدين، أو عجائز انفض عنهن الأقارب ” وقال يا كثر هرج البدو، قلت من كثر ترديده“.. ليس أكثر ثرثرة من الشخصية العربية التي اتخذت من الكلام حرفة، ومن الشعر صنعة، ومن المديح رزقاً، ومن الهجاء خصومة، وكنا بالفعل “ظاهرة صوتية”.. لم نكن يوماً أمة بناء وصناعة وأبحاث جادة، فعوضنا ذلك بكم هائل من القصائد والدواوين والحكايات الخرافية – بل وصنعنا سوقاً للشعر (نتعاكظ) فيه قديماً وحديثاً!
لم نتغير كثيراً هذه الأيام رغم تغير وسائل الثرثرة ذاتها.. *فما زلنا أكثر الأمم ثرثرة عبر الهاتف، والواتساب، وتويتر، وكل وسيلة تقنية تحمل كلامنا لأكبر قدر ممكن من الناس.. لم نحتل فقط المركز الأول في تناقل الشائعات وإعادة التغريدات، بل وأصبحنا ننتج 90 تغريدة إرهابية بالدقيقة و129 ألف تغريدة مسيئة في اليوم (حسب عبدالمنعم المشوح رئيس حملة السكينة)!!* .
( راجع : مقال فهد عامر الأحمدي في 24 ديسمبر 2014م )
و إن كنت لا أتفق مع الأحمدي في إشارته السالبة للشعر و القصة ، و أتفق معه في غير ذلك.
و مقال جميل للدكتور عبدالله الطاير (نشر في صحيفة الرياض في 25 نوفمبر2014 تحت عنوان السعوديون الأول عالمياً في الإشاعة) جاء فيه:
(( .. تصدر ميري ميكر تقريراً سنوياً حول نزعات مستخدمي الإنترنت واتجاهاتهم.. وفي تقريرها لعام 2013 تصدر السعوديون المشهد حيث عمد 60% منهم إلى مشاركة ما يصلهم مع الآخرين من خلال إعادة الإرسال… وكانت هذه النتيجة هي الوحيدة في التقريرالتي بدأت بكلمة wow واو حيث اتضح أن معظم السعوديين يُشركون الآخرين فيما يصلهم – في حين اتضح أن الأمريكان متحفظون… وربما لا تعلم السيدة ميري (وما يزال الكلام للطاير) أن كل رسالة تصلنا تذيل باستحلافنا بالأيمان المغلظة وتهديدنا بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم نُعد توجيهها !!
وفي حين تأتي بعد بعدنا الهند واندونيسيا وتركيا ( في نسبة إعادة الإرسال) هناك في المقابل شعوب شغلها العمل والانجاز عن الثرثرة وتناقل الكلام.. ففي ذيل القائمة يأتي اليابانيون (بنسبة 5%) ثم الألمان (9%) ثم الفرنسيون والبريطانيون (10%) ثم الأمريكان (15%) من حيث نسبة إعادة الإرسال!!!
المشكلة أننا نفعل ذلك رغم امتلاكنا رصيدا هائلاً من النصوص والأحاديث التي تحذر من القيل والقال وتناقل الكلام.. خذ كمثال حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ” كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع” وقوله ” بئس مطية الرجل زعموا” وكذلك ” كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال“..
نتحدث دائماً عن ضرورة وجود ” ضوابط شرعية” في كل شيء – رغم أن الأصل في الأشياء الإباحة – ونتجاهل ضرورة وجود “ضوابط شرعية” في وسائل الكترونية من طبيعتها الغمز واللمز والغيبة والنميمة!!
يأخذ العالم عنا فكرة خاطئة بأننا شعب خجول ومتحفظ؛ ولكن الحقيقة هي أننا لسنا متحفظين حين يتعلق الأمر بالثرثرة وصنع الضجيج وإعادة تصدير الشائعات.. فهل يكمن السبب في موروثنا العربي القديم، أم في فراغنا العملي الحديث؟ .
هل يكمن في امتلاكنا ثقافة كلام وأدب وتنظير، أم لأن من لا يراقب الناس في مجتمعنا ويعلق على تصرفاتهم ونواياهم يموت ” طفشاً ” قبل أن يموت ” همّاً “!؟
أترك لك حرية الثرثرة على هذا السؤال . ))
( راجع : مقال عبد الله الطاير جريدة الرياض بتاريخ ٢٥ نوفمبر ٢٠١٤م )
يلخص لنا نصر محمد عارف شهوة الكلام :
يوماً ما في المستقبل القريب أو البعيد سيكتب التاريخ عن أيامنا هذه أننا كنا غارقين في بحور من الكلام، كلام في غالبه يَكْلِمُ أي يجرح ويُحزن، سيذكر التاريخ أن النخب الثقافية العربية؛ فيما بعد فوران الانتفاضات الشعبية في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين؛ كانت تسيطر عليها شهوة الكلام، كان هؤلاء المثقفون سكارى بخمر الكلام، يعبون منها بلا ارتواء، كمن يشرب ماءً مالحاً، يزداد عطشاً كلما شرب أكثر.
علاج شهوة الكلام :
علاج شهوة الكلام أن نقتدي بسيدنا زكريا عليه السلام، أن نصوم عن الكلام، ولو لثلاثة أيام، حينها سيخف الضجيج، وتتراجع الأمراض النفسية، وتتحسن حياة الناس، وتنجو مجتمعاتنا من طريق الخراب الذي تقودها إليه نخبة الكلام.
تقرأ صحيفة أو تجلس أما التلفاز تشاهد الحوارات؛ تجد كلاماً فوقه كلام تحته كلام، عالم كامل من الحروف، والكلمات الفارغة الجوفاء، لا حقائق واقعية لها، ولا هدف من قولها، إلا أن تملأ فراغ الفضائيات، وتسوِّد بياض الصفحات بحروف ما فيها من حبر أكثر قيمة مما تحمله من أفكار ومعانٍ.
تحاول أن تخرج بفكرة أو رؤية أو طاقة أمل أو نور معرفة أو قيمة إنسانية تضيء طريق القادم من أيامك، لن تجد إلا ظلاما دامساً، سبابٌ ولعناتٌ، وتشكيكٌ، وتشاؤمٌ، لقد أدمنت نخبة البوم والغربان الحديث عن السلبيات، ومواطن الفشل، وتضخيم الأزمات، ونشر الفضائح، والرذائل في المجتمع. بل إن هناك منظومة متكاملة من القنوات الفضائية، والمواقع الإخبارية؛ تقف وراءها دول؛ تسخر مواردها، وتجيش كل إمكانات، وعلاقات هذه الدولة من أجل نشر ثقافة البوم والغربان.
شهوة الكلام أكثر خطورة من جميع الشهوات الدنيئة في الإنسان؛ لأنها شهوة مدمرة، ينتقل ضررها من القائل إلى السامع أو القارئ، وهم كثر، فيتعدد تدميرها بتعدد من يتلقى الكلام، ويؤمن به، ويعمل طبقاً له، لذلك كل القتل والتدمير الذي يحدث في الدول العربية في عصرنا هذا كان ناتجاً عن كلام في صورة خطب عصماء لسياسيين انتهازيين، أو لرجال دين من عدماء الدين، وتجار الدين.
الكلمة قد تبني وقد تهدم، وترفع صاحبها إلى مقام المصلحين، وتهوي به مع القتلة والمخربين.
كنتُ ولم أزل أتأمل لماذا كانت إجابة الله سبحانه وتعالى لسيدنا زكريا بالامتناع عن الكلام؛ عندما سأله عليه الصلاة والسلام أن يجعل له آية مثل آيات باقي الأنبياء، فقال الله سبحانه وتعالى له كما جاء في القرآن الكريم: { قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} (آل عمران- ٤١ ) .
كيف يكون الصمت آية وعبادة يأمر الله سبحانه بها نبياً من أنبيائه؟
و في الحديث روى الإمام البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- من طريق أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) .
الصمت رياضة وعبادة وحكمة ما أحوج مجتمعاتنا إليها، نحن في حاجة إلى الصمت في هذا الضجيج الفظيع الذي أذهب العقول، ولوث القلوب، وحول طبقة من البشر؛ هي الأكثر تعلماً تغرق في ثرثرة فارغة تصم الأذان، ولا تنير العقول، قديماً وصف الإغريق الحكماء هذا الصنف من المثقفين بالسفسطائيين، أولئك المتلاعبون بالكلام الخالي من المعاني، عديم المنطق؛ لملء العقول بالأوهام والأكاذيب، والعبث بالمجتمع بأن ينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، فتضيع الحقائق، وتفسد المجتمعات.
*شهوة الكلام في مجتمعاتنا تقودها إلى التفكيك والخراب*، فحقيقة الظواهر المدمرة التي تعصف بالمجتمعات العربية هي *في جوهرها كلام* .
مع تحياتي ،،،
محمد الطيب عابدين
بري رمضان ١٤٤٤هجري
التعليقات مغلقة.