السفير د حسن عيسى الطالب يكتب البازار السياسي السوداني
البازار السياسي السوداني
العبارة المفتاحية التي وصف بها الرئيس الإريتري اسياس أفورقي محاولات المجموعات المؤيدة للتمرد، التي زارته في العاصمة أسمرا بداية هذا الاسبوع، تسولا لحلول مبهمة، لأزمة كانوا هم من سعر أوار نيرها، ومثلما ظل الحال في بلادنا المكلومة بأبنائها العاقين لأمومتها، ومنذ خمس سنوات عجاف خالية.
وصف الرئيس الإريتري الماراثون السياحي الهازل للناشطين السياسيين الماثلين بين يديه، والذي يجيئ في وقت يتعرض فيه المواطنون السودانيون في عاصمة البلاد وأرجائها القصوى، للنهب والسلب والقتل وهتك الأعراض، بأنه مجرد ‘بازار سياسي’.
والبازار، مفردة فارسية، تستخدم في إيران والهند، وكثير من دول جنوب شرقي آسيا. وفي العاصمة الهندية نيودلهي يتردد عشرات الآلاف يوميا على سوق ‘باليكا بازار’ الذي يزخر بكافة المعروضات والأدوات من الخضر والفواكه والحبوب واللحوم والمواشي والسيارات وحتى والركشات والعطور والأثاث ومواد البناء والخردوات.
فمثل بازار باليكا، ضم البازار السياسي السوداني من لا انتماء لهم، ومن يزعمون تمثيل شعب بلا تفويض، ولا هوية انتخابية، ولا تمثيل من قواعد شعبية، من تلقاء الناشطين المدنيين، ومراسلي السفارات والبصاصين، ومن لاجيئ الشتات، يتماهون مع من يصفون أنفسهم بأنهم من قادة التظاهرات، وملوك الإشتباكات، ليس ضد جيوش غازية، ولا بغاة معتدين؛ ولكن على قوى حفظ الأمن وإنفاذ القانون، والشرطة، والجيش الوطني. وبين هؤلاء بعض المنتمين لأحزاب سياسية بالية الأفكار وتفتقر للتفويض الديمقراطي حتى داخل حواضنها الاجتماعية، ومنذ العشرات من السنين.
هذا المشهد من الفسيفساء الهجين، المتناثرة وغير المتناسقة، نظر إليه الرئيس أفورقي، بعين الخبير الذي ظل يتعرض للماكيدات الجيوبوليتيكية والضغوط الدبلوماسية، والمؤامرات التجسسية من الخارج منذ عدة عقود، فأطلق وصفته الشاهرة، التي سارت بها الركبان، وأصبحت مضربا للأمثال السياسية، وضمنت في أدبيات فقه الدولة؛ فبها نعي للسياسة السودانية، وفضح سذاجة القائمين عليها، وساستها السائحين الفاكهين.
اليوم ينعقد باديس أبابا مؤتمر قمة للإيقاد، وبحضور أمريكي وأوربي، وغياب رئاسي للسودان ولإريتريا، التي كان لها رأي مسبق في صدقية وجدية المنظمة شبه الإقليمية ومنذ أكثر من ١٥ عاما، فجمدت مشاركتها فيها احتجاجا على رئاسة إثيوبيا إبان عهد رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي.
ولعل أغرب مقاربة، وأقبح سابقة شانئة للمؤتمر الحالي، هو أن تدور فيه مداولات بشأن دولة لا يشهدها رئيسها، أو أن تفرض دولة عضو على أخرى حلولا دون مشاورتها ولا حتى التنسيق معها.
فضلا عن كون الإيقاد هيئة حكومية مؤسسة من الدول الأعضاء منذ عام ١٩٨٦م، والسودان مع إثيوبيا وجيبوتي والصومال ويوغندا وكينيا، من المؤسسين لها. وكانت المبادرة أصلا من أفكار المشير الراحل جعفر نميري، إبان استشراء موجة الجفاف والتصحر، التي اكتنفت منطقة القرن الأفريقي، وتأثر بها السودان في مناطق كردفان ودارفور، في النصف الأول من الثمانينيات من القرن الماضي.
مشكلة السودان اليوم تكمن في أن من حوله من الأجاويد الذين ينشطون زاعمين مساعدته، بينهم بعض من حساده الناقمين، ممن لا يرغب أصلا في حل شامل وحاسم للأزمة المفروضة بأجندة الأجانب.
ذلك يتجلى من تلقاء التعامل المعلن لهؤلاء مع فصيل متمرد من الجيش، مثله مثل الحرس الوطني أو القوات الخاصة، في بعض الدول، فيراد التعامل معه باعتباره جيشا آخر، بكامل الصلاحيات والسلطات؛ ثم يمنح فرصة التفاوض مع الجيش الوطني، ثم يلبس عباءة سياسية ليتبنى بها فكر أيديولوجي لمجموعات تتقوى بدول خارجية، تريد فرض أجندتها بالقوة الجبرية على شعب السودان، دون استفتاء، ولا انتخابات، ولا مشورة شعبية.
والغريب أن أولياء أمريكا من لدن الإتحاد الأوربي وبريطانيا والنرويج والأتباع الإقليميين، هم الذين أصبحوا اليوم الرعاة والكفلاء للفريق الموالي لهم ضد شعب السودان. ولا ريب في اختيارهم منظمة الإيقاد التي يمولون ٧٠% من ميزانيتها.
فما حدث في دارفور من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، ومن اغتيالات، واغتصابات، وتدمير للديار، ونهب للأموال، يشبه ما أحدثته مجموعات مجرمة دوليا كداعش في العراق وسوريا، أو ميليشيات القاعدة في بعض الدول التي تنشط فيها؛ وتشبه بعض فصولها مجازر الإبادة التي ارتكبت في رواندا، والتي وجدت إدانة ومحاسبة المجتمع الدولي بكامل أطيافه.
بيد أن كفلاء ورعاة البازار السياسي السوداني، وحفاظا على استدامة العمالة المستشرية، لا يجرمون هذه الأفعال، فيغضون عنها الطرف، بل يمتعضون كثيرا عندما تتواصل الحكومة السودانية مع دول صديقة كروسيا والصين، بعدما تم عزل الجيران المتأثرين بمكر خادع، كمصر، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وإبعادهم عن المشهد لضمان اخراج المؤامرة على شعب السودان في غياب الرقيب والحسيب.
على كل حال، المطلوب اليوم من رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش، تشكيل حكومة مهام فورية، وبأجندة حصرية، للتحضير للإستفتاء على دستور حاكم، ثم إجراء الانتخابات العامة، ليتم وفق نتائجها تشكيل حكومة منتخبة، يختارها ويعترف بها أولا شعب السودان، ثم تجد القبول من المجتمع الدولي. رضي من رضي وأبى من أبى. فالشعب السوداني هو صاحب السيادة، وله وحده الحق في منح التفويض لمن يرتضيه. ولا يجوز لأي حزب، ولا مجموعة سياسية، ولا ناشطة، ولا كيان، ولا هيئة، أو دولة أجنبية، التحدث بإسمه، ولا التقرير في شئونه.
هذا هو معنى السيادة الوطنية المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وفي كل دساتير العالم، والمواثيق، والأعراف الدولية.
هذا هو المنهج والمخرج ليكون السودان، أو لا يكون.
فلا يمكن أن يجلس بعد اليوم العسكر مع المدنيين للتشاور بشان مستقبل البلاد السياسي. هذا ليس اختصاصهم، ولا منطوق ميثاق الشرف الذي استحفظوا عليه. بل يتعين إنهاء المسلسل الفاضح الجاري على مسرح اللامعقول، وإجراء محاكمات عادلة، يشرف عليها القضاء السوداني النزيه والمشهود له بالشفافية، لمحاكمة من أجرموا في الحقوق وانتهكوا القانون، ثم النظر في بسط حكم القانون والسيادة الوطنية، دون مواربة ولا تردد ولا تاجيل.
فالسيادة منشؤها الشعب السوداني، وأساسها الديمقراطية، وأعمدتها التي تقوم عليها الحكم الراشد.
السفير د حسن عيسى الطالب
التعليقات مغلقة.