امتدت نيران حرب الخرطوم إلى أوراق الصحف السودانية الرفيعة وتسببت
في تجفيف الحبر فرفعت الأقلام وتحولت بعض الأكشاك والمكتبات التي تعود
القراء التحلق حولها من أجل الاطلاع على مانشيتات الجرائد بشغف إلى ركام جراء سقوط القذائف وطلقات الرصاص.
انهيار الصحافة في السودان لم يتوقف عند إغلاق الصحف والانقطاع عن القراء،
بل وصل بطبيعة الحال إلى مئات الصحافيين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة البطالة، ما دفع الواقع الجديد بعضهم إلى البحث عن مهن أخرى والالتحاق بأعمال لا علاقة لها بالكلمة، وتفرق البقية بين نازحين ولاجئين.
منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع،
في 15 أبريل (نيسان) الماضي، توقفت كل الصحف الورقية في البلاد بسبب انعدام الأمن وتوقف عمل المطابع.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نقيب الصحافيين السودانيين عبدالمنعم أبو إدريس، قال إن “من واقع رصد النقابة
فإن كل الصحف المطبوعة توقفت، وصار من المستحيل الوصول إلى مقارها بسبب وجودها في قلب مناطق الاشتباكات، كما يعيش الصحافيون في مختلف المؤسسات أوضاعاً مأسوية بسبب توقفها عن سداد مرتباتهم في ظل حالة النزوح التي يعانون منها، والوضع أكثر سوءاً بالنسبة إلى المرضى أو أفراد أسرهم”.
وأضاف أبو إدريس أن “الوقائع تشير إلى أن الكثير من المؤسسات الصحافية ستتوقف
نهائياً عن العمل، ما سيضاعف نسبة البطالة وسط الصحافيين والصحافيات وهي في الأصل مرتفعة”.
ظلال سالبة
ظلت نسب توزيع الصحف السودانية في تراجع مستمر، خلال السنوات السبع الماضية،
إذ تأثرت بالأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد، فضلاً عن القيود التي فرضها عليها الأمن السوداني وزيادة تعلق القراء بهواتفهم المحمولة.
في السياق يشير الكاتب والصحافي الجميل الفاضل إلى أن “كل الصحف التي كانت
تصدر في العاصمة الخرطوم على قلة إعدادها وضعف توزيعها توقفت تقريباً لعدة أسباب،
أولها بالطبع انعدام الأمن جراء حالة الحرب التي أدت بدورها لتوقف عمل المطابع، أو للأخطار التي تحدق بحياة العاملين أو لتوقف واردات مدخلات الطباعة والانقطاع شبه التام للتيار الكهربائي الذي تعتمد عليه الآلات الطباعية في عملها”.
واعتبر الفاضل أن “أوضاع الحرب ألقت بظلالها على إمكانية تنقل الصحافيين
واتصالاتهم بالمصادر للحصول على المعلومات والأخبار بخاصة مع استهداف طرفي الصراع للصحافيين وتقييد حركتهم ونشاطهم، ومع تزايد حدة الاستقطاب التي فرضها واقع الحرب تراجع التزامهم بالقيم المهنية وقواعد الحياد والموضوعية والنزاهة إلى حد بعيد”، متوقعاً أن “يتأثر مستقبل المهنة بتداعيات الحرب مثلما ستتأثر بها الأوضاع بالبلاد في كافة المجالات”.
مجهودات فردية
من جهته، قال الصحافي السوداني عمار سليمان إن “أكثر من 90 في المئة من الصحف الصادرة
في الخرطوم خلال عهد نظام عمر البشير منحازة لنظام (الإخوان المسلمين)
بشكل واضح باستثناء مجهودات فردية للزملاء الصحافيين الذين حققوا كثيراً من الاختراقات لمصلحة التغيير والشفافية والديمقراطية من خلال صحف النظام نفسها التي كانت ترسم للناس صورة الوطن بعين المؤتمر الوطني وتستهدف رسائلها شيطنة معارضي الحزب الحاكم الذي أطاحته ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019”.
وأضاف “على رغم أن الثورة وفرت مساحات من الحرية لكنها لم تنعكس بالقدر الكافي على الصحافة،
وظلت الصحف الموالية للنظام القديم تدس السم في العسل،
وظهرت ثلاث صحف جديدة حاولت استثمار أجواء الحريات من أجل دعم الثورة والديمقراطية إلا أنها عانت كثيراً من لدغات الثورة المضادة التي شنت ضدها حرباً اقتصادية فحرمت هذه الصحف من إعلانات كبرى الشركات التي يسيطر عليها أنصار البشير، وكذلك واجهت هذه الصحف صعوبات في خدمات الطباعة والتوزيع التي يمتلك الشركات التي تقدمها أيضاً أعوان النظام البائد”.
ونبه سليمان إلى أن “هناك عاملين ظلا هما المتسببان في توقف الصحف في السودان،
أولهما غياب المؤسسية، إذ يتفرد أحد المساهمين بإصدار القرارات إلى جانب
تدخلات إدارية تؤثر في استقلالية الصحيفة وأحياناً تتسبب في تصنيفها، بالتالي
يفقد القراء متعاطي الصحافة الحرة ثقتهم في موضوعاتها، ما يقود إلى قلة مبيعاتها ومن ثم خروجها من سباق التنافس في السوق”.
الصحافي السوداني عمار سليمان ذهب أيضاً إلى أن “المجتمع مر بحالات مد وجزر
خلال السنوات الخمس الأخيرة بعد أن انتقل من حكم شمولي تمظهر
في استبداد أنصار النظام إلى آخر جديد من شقين عسكري يحن للشمولية
ومدني يتوق للحرية، ونتجت من ذلك تناقضات في المشهد فمالت بعض الصحف
لتأييد العسكريين على رغم ادعائها الحياد، كما ظهرت صحف جديدة جميعها تصف نفسها بالمستقلة غير أنها تفتقد الحياد، لكن جزءاً منها لا يرى في انحيازه للثورة والديمقراطية مجافاة للحياد”.
وأشار سليمان إلى أن “الحرب أوقفت ما تبقى من صحف وخلفت آثاراً يصعب التنبؤ
بكيفية التعايش معها، وأطلق القتال رصاصة الرحمة على صحف السودان،
لا سيما الورقية منها، وعلى رغم الفراغ الذي خلفه غياب الصحف إلا أن توقفها
بسبب الحرب يشير إلى أن الصحافة في البلاد لا تحيا إلا في أجواء الأمن والسلام”.
التعليقات مغلقة.