(تفسير الآيتين(٢٧٨)و(٢٧٩) من سورة البقرة)
(تفسير الآيتين(٢٧٨)و(٢٧٩) من سورة البقرة)
المصدر : كتاب(جوامع الكلم في تفسير كتاب خير الأمم)
المؤلف : محمد الطيِّب قسم الله(ابن الطيِّب)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279))
نزلت هاتان الآيتان في أربعة إخوة من ثقيف : مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يُرْبُون ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة ، فطلبوا رِبَاهم من بني المغيرة ، فقال بنو المغيرة : والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين ، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة ، فكتب عَتَّاب بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)) ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَتَّاب وقال: ” إن رَضوا وإلا فآذِنْهُمْ بحرب”) ، ورُوي أيضا أنها نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنـزل الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) هو خطاب للمؤمنين بأن يخافوا الله ويتركوا ما لهم من مال الربا على الناس بعد أن نزل القرآن بتحريمه ، وأن لا يطالبوا بهذا المال أحداً إن كانوا مؤمنين بما شرع الله لهم من تحليل البيع وتحريم الربا ، ويُستثنى من ذلك ما أخذوا من مال الربا من قبل ذلك فلا حرج عليهم في الانتفاع به كما أشار إليه قوله تعالى:(فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ) .
وقوله تعالى:(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ) أي فإن لم تتركوا ما بَقِي لكم من مال الربا على الناس وطالبتم به فاعْلَمُوا واستيقنوا بحرب من الله ورسوله ، بقراءة(فَأْذَنُوا) مقصورا بفتح الذال أي فاعْلَمُوا أنتم أنكم حرب لله ورسوله ، وفي قراءة(فآذِنُوا) بالمد أي فأعْلِمُوا غيركم أنكم حرب لله ورسوله ، وحرب الله هي النار وحرب رسول الله هي السيف ، قال ابن عباس: (يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: “خذ سلاحك للحرْب”) ، (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) وإن تبتم عن أخذ الربا وانتهيتم عنه فلكم حق المطالبة برؤوس أموالكم على المَدِينين لكم ، لَا تَظْلِمُونَ بطلب الزيادة الربوية ، وَلَا تُظْلَمُونَ بالنقصان عن رأس المال ، فلو افترضنا أن لأحد على آخر دَيْناً بمبلغ ألف دينار وبلغ هذا الدَّيْن بسبب الزيادة الربوية ألفاً وثلاثمائة دينار فللدائن أن يطالب المَدِين بِرَدِّ رأس المال الذي أقرضه إليه وهو ألف دينار دون المطالبة بالزيادة الربوية وهي ثلاثمائة دينار لأنها مالٌ رِبَويّ ، والرِّبَا حرامٌ شرعا.
(مسألة فقهية : ما حكم الفوائد على الودائع المصرفية ؟ ، وهل يجوز الانتفاع بمال الربا لغير صاحبه؟)
لا يجوز لأحد الانتفاع بمال الربا الذي اكتسبه عن دَيْن أو بسبب نشاط تجاري أو اكتسبه عن وديعة مصرفية ، لا يجوز له الانتفاع بماله الربوي أبداً ، لا في مأكل ولا في مشرب ولا في ملبس ولا في مسكن ، ولا فيما سوى ذلك ، والدليل على ذلك ما ورد في هاتين الآيتين(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)) ، فضلاً عما ورد في الآيات السابقة التي نصت على تحريم الربا ومحقه ، ومن السنة النبوية وردت أحاديث تؤكد ذلك ، فمنها الحديث المتفق على صحته عن أبي هُريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال :(اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) ، وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة وهب بن عبدالله السوائي قال:(لعَنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، وآكِلَ الرِّبَا ومُوكِلَهُ، ونَهَى عن ثَمَنِ الكَلْبِ، وكَسْبِ البَغِيِّ، ولَعَنَ المُصَوِّرِينَ)، ومنها حديث أحمد والبزار عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(دِرهمُ ربًا يأكلُه الرَّجلُ وهوَ يعلَمُ ؛ أشدُّ من سِتةٍ وثلاثين زَنْيَةٍ) ، ومنها أيضاً حديث أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لَيَأْتِيَنّ علَى النّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أحَدٌ إلاّ أكَلَ الرّبَا، فَإنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ).
ولقد أفتى سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، وأورد القرطبي فتوى الإمام مالك في شأن الرجل الذي حلف بالطلاق قائلا:(ذكر ابن بكير قال : جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال : يا أبا عبد الله ، إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر ، فقلت : امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشَرُّ من الخمر . فقال : ارجع حتى أنظر في مسألتك . فأتاه من الغد فقال له : ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له : امرأتك طالق ، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشَرَّ من الربا ؛ لأن الله أذن فيه بالحرب).
وحيث إن الفوائد على الأموال المُودَعة في المصارف الربوية هي ربا محض لا يجوز الانتفاع به فهل يجوز ترك هذه الفوائد الربوية لمصلحة المصارف الربوية لا سيما تلك المصارف الواقعة في بلدان غير مسلمة؟.
لا يجوز ترك الفوائد الربوية Interests لمصلحة المصارف الربوية الواقعة في بلدان غير مسلمة لاحتمال استخدامها في نشاط ليس في صالح الإسلام ولا المسلمين ، وهنالك ثلاثة آراء فقهية في جواز الانتفاع بأموال الربا لغير أصحابها هي كما يلي:
الأول : أموال الربا هي كسب خبيث لا يجوز لأصحاب هذه الأموال الربوية أن ينتفعوا بها كما نصَّتْ على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، لكن بالمقابل فإن هذه الأموال ليست كسباً خبيثاً للغير ، فيجوز بناء على ذلك التصدق بأموال الفوائد الربوية على الفقراء والمساكين وطلاب العلم ، ويجوز التبرع بها للجمعيات الخيرية ، كما يجوز إنفاقها في وجوه البر المختلفة كتشييد المرافق العامة صحية كانت أم تعليمية ، وقد استشهد أصحاب هذا الرأي بالحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن عاصم بن كليب، عن أبيه، أن رجلا من الأنصار أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما رجعنا لقينا داعي امرأة من قريش فقال: يا رسول الله، إن فلانة تدعوك ومن معك إلى طعام، فانصرف فانصرفنا معه، فجلسنا مجالس الغلمان من آبائهم بين أيديهم، ثم جيء بالطعام فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ووضع القوم أيديهم ففطن له القوم، وهو يلوك لقمته لا يجيزها، فرفعوا أيديهم وغفلوا عنا، ثم ذكروا فأخذوا بأيدينا فجعل الرجل يضرب اللقمة بيده حتى تسقط، ثم أمسكوا بأيدينا ينظرون ما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها فألقاها فقال: (أجد لحم شاة أُخذت بغير إذن أهلها).
فقامت المرأة فقالت: يا رسول الله، إنه كان في نفسي أن أجمعك ومن معك على طعام، فأرسلت إلى البقيع فلم أجد شاة تباع، وكان عامر بن أبي وقاص ابتاع شاة أمس من البقيع، فأرسلت إليه أن ابتغي لي شاة في البقيع، فلم توجد فذكر لي أنك اشتريت شاة، فأرسل بها إليَّ، فلم يجده الرسول ووجد أهله فدفعوها إلى رسولي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموها الأسارى).
وأجاز بعض أهل الفقه لصاحب مال الفوائد الربوية إن كان فقيراً أن ينتفع به بقدر الحاجة ، وأن لا يتجاوز بالانتفاع به قدر حاجته.
الثاني : يجوز التبرع بأموال الفوائد الربوية فيما يناسبها من أوساخ الناس كبناء المراحيض العامة ، والمقصود بها المراحيض في الأمكنة العامة التي يستخدمها عموم المواطنين ، ولا يجوز بناء مراحيض خاصة بصاحب مال الفوائد الربوية .
الثالث : إتلاف المال الربوي لا سيما إن كان قليلاً.
قال ابن الطيِّب :(فمن كان مقيماً في بلد غير مسلم ، أو في بلد ليس بها مصرف يعمل بالنهج الإسلامي الخالص من الربا ، واضْطُرَّ إلى إيداع ماله بمصرف ربوي بتلك البلد ، فازدداد ذلك المال المُودَع بسبب الفوائد الربوية عليه خلال فترة من الوقت فعلى ذلك الشخص المقيم أن يجتهد في حساب الفوائد الربوية المترتبة على وديعته المالية ، فلو أودع مثلاً مبلغاً مقداره خمسة ألف دولار ، وبلغ هذا المبلغ خلال مدة من الزمن بفعل الفائدة الربوية ستة ألف دولار ، فهذا يعني أن الفائدة الربوية هي ألف دولار ، فيجب عليه حينئذ عدم الانتفاع بهذه الفائدة الربوية ، وعليه أن يتصدق بمبلغها في وجوه البر المتعددة بناء على الرأيين الفقهيين الأول والثاني ، ولا نجيز إتلاف المال الربوي وإن كان قليلاً لأن للمال قيمته ومنفعته فلا ينبغي إتلافه ، ولكن ينبغي التصدق به لمنفعة المحتاجين من عباد الله تعالى ، والله أعلم).
(مسألة حضارية : كيف استطاعت دولة الإسلام تحقيق الاكتفاء الذاتي والرفاه الاقتصادي بالمقارنة مع التجربتين الشيوعية والرأسمالية؟)
الإسلام ليس هو دين الفقر ، ولا يدعو إلى الفقر ، ولا هو دين التبطل والتعطل والتسول ، بل هو دين العمل والكسب والاكتفاء والغِنَى ، فالفقر في الإسلام هو حالة استثنائية تعتري الفرد والجماعة ، وتزول بزوال أسبابها ، فعلى كل مسلم أن يجتهد كل الاجتهاد في الحصول على كل رزق حلال يستغني به عن الناس ، فإن ابتلى الله العبد بعد اجتهاده بالغِنَى كان الشكر أعظم صفة يتصف بها العبد ، والشكر هو طاعة الله وعبادته ، وإن ابتلاه الله بعد اجتهاده بالفقر كان الصبر أعظم صفة يتصف بها العبد.
كانت إيرادات بيت مال المسلمين أو ميزانية دولة الإسلام في عصورها المختلفة تأتي من أموال الزكاة وأموال نفقات التطوع ومن الخراج وأموال الغنائم ، وكانت منصرفات هذه الميزانية تُوَجَّه في تلبية نفقات إعداد جيش المسلمين ورواتب الجند والموظفين المستخدمين في الدولة ورواتب العاملين على جمع الصدقات ، وكان جزء كبير من منصرفات هذه الميزانية يُنفق في أوجه التكافل الاجتماعي دعماً لشرائح المجتمع الفقيرة المتعففة ، كما يُنفق في دعم العلم والمساجد وفي تشييد مرافق الدولة.
على هذا المنهاج استطاعت الدولة الإسلامية تحقيق الاكتفاء الذاتي والرفاه الاقتصادي في المجتمع المسلم بحسبانها كياناً مؤسساً على التراحم والتعاون ، قائماً على دعائم الفطرة السليمة والعدالة القويمة ، منطلقاً من قيم الأخلاق والخير والحق.
قامت كلتا النظريتين الرأسمالية والشيوعية على فلسفة متطرفة في النظرة إلى مِلْكية الفرد ، فالأولى توسعت في حق ملكية الفرد على حساب الدولة ، والثانية توسعت في حق ملكية الدولة على حساب الفرد ، والفرد والمجتمع كلاهما ضحية لممارسات النظريتين معاً ، والإسلام توسط في شأن الملكية ، فأعطى الفرد ملكية خاصة مقيدة وليست مطلقة ،
بوصفه مُسْتَخلفاً في مال الله تبارك وتعالى ، تبعاً لقول الله عز وجل:(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)..
الرأسمالية والشيوعية كلتاهما نشأتا على خصومة مع الدِّين ، فالرأسمالية منذ نشأتها الأولى كان أثرياؤها يسلكون كل سبيل لتكثير الكم بصرف النظر عن الكيف ، ففي العهد الجاهلي مثلاً كان الرأسمالي الثري يبعث بإمائه ليمارسن البِغَاء وهو الزنا لكي يرجعن إليه بعوائد مالية وفيرة ، فلما جاء الإسلام حرَّم هذه الجريمة بقوله تعالى:(وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
ولذلك فلا غَرْوَ إذا رأينا في عصورنا الراهنة كيف تشبثت الرأسمالية بليبرالية متطرفة معادية للدين والأخلاق ، لأنها لو استجابت للقيم الدينية والأخلاقية فإنها ستحظر كثيرا من أنشطتها المتمثّلة في تجارة الدعارة والقمار وغيرها ، وبالتالي ستتضاءل عوائدها المالية الناتجة عن مثل هذه الأنشطة .
وأسس كارل ماركس نظريته الشيوعية من ثلاث مدارس فكرية مازج بينها هي الفلسفة الألمانية والاشتراكية الفرنسية والاقتصاد الإنجليزي ، فخرج بنظرية شيوعية أسسها في نشأتها الأولى من الناحية الفكرية على الإلحاد ، ثم اعتمدت من الناحية السياسية على ممارسة الاستبداد ، وتأثر ماركس بالنهج الجدلي للفيلسوف الألماني هيغل ، وزعم ماركس في تحليله لتاريخ المجتمعات الإنسانية أن البشرية قد مرت بأربع مراحل هي الرّق والإقطاع والرأسمالية والاشتراكية وأن المرحلة الخامسة هي الشيوعية التي اعتبرها المرحلة الأهم والأكمل في التاريخ ، وادَّعى أن البلدان التي تسود فيها الشيوعية ستكون أحسن اقتصاداً ورفاها ، لكن تنبؤاته قد فشلت جميعها ، وصارت دول أوروبا الشرقية التي اعتنقت الفكر الشيوعي تعاني أوضاعا اقتصادية مأزومة باستمرار حتى أفضى بها المآل إلى زوال الاتحاد السوفيتي وتفككه واستقلال دُوله الشيوعية مهرولةً واحدة تلو الأخرى صوب المعسكر الغربي الرأسمالي.
وكما فشلت الشيوعية فشلت الرأسمالية أيضاً ، إذ عمَّقت بممارساتها الهوة بين الفقراء والأغنياء ، فازداد الفقراء فقراً ، وازداد الأغنياء غنىً ، وتضاءلت مساحة الطبقة المجتمعية الوسطى ، وصار الرأسماليون يتحكمون في مسار الديمقراطية في بلدانهم ويكيِّفونها وفق مصالحهم ، ويضعون التشريعات التي تدعمهم وتحميهم ، وذلك لأنهم بأموالهم يقودون السياسيين ، ويأتون إلى البرلمانات بالمرشحين ، ومن يمتلك المال يضع القوانين ، وأدى الفساد الأخلاقي إلى تبدد الكيان الأُسري في المجتمعات الرأسمالية ، وخلال العقود الأولى من الألفية الميلادية الثالثة شهدنا تزايداً مطَّردا في ظاهرة الإضرابات والمظاهرات في دول رأسمالية كبرى ، وفي ذلك آية بيِّنة على أن العهد الرأسمالي قد آذَنَ بالأفول.
وبمقارنة هاتين التجربتين مع ما حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نجد أن الفارق أعظم في الشكل والجوهر ، روى أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في كتاب الأموال عن سهيل بن أبي صالح، عن رجل من الأنصار، قال: (كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن زَوِّجْ كل شاب يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين).
كانت المستشفيات في العصور الإسلامية تستقبل المرضى الفقراء وتعالجهم مجانا ، وتقدم إليهم أطيب الأطعمة مجاناً ، قالت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه في كتابها(شمس العرب تسطع على الغرب):(يُروى أنه عندما أراد السلطان عضد الدولة ان يبني مستشفى جديداً حديثاً في بغداد أوكل الى الطبيب الذائع الشهرة (الرازي) بالبحث عن أفضل مكان له . فكان أن أوصى الرازي بتعليق قطع كبيرة من اللحم من مختلف الأنواع في كل أطراف بغداد ثم انتظر مدة اربع وعشرين ساعة وانتقى المكان الذي ظل فيه اللحم في احسن حالة أو قل في أقلها سوءاً ، وأما السلطان صلاح الدين في القاهرة فلقد اختار أحد قصوره الفخمة وحوَّله الى مستشفى ضخم كبير المستشفى الناصري وانتقى في اختياره ذاك قصراً بعيداً عن الضوضاء .
وتوافرت في مستشفيات الخلفاء والسلاطين كل أسباب الرفاهية التي كانت تتوافر في قصورهم من أسِرَّة وثيرة ناعمة الى حمامات كانت تتمتع بها الطبقة الحاكمة في بيوتها ومن المعلوم ان هذه المستشفيات على غناها ورفاهيتها كانت تفتح ابوبها للفقراء ولكل ابناء الشعب بدون تمييز وعندما انتهى المستشفى المنصوري في القاهرة طلب السلطان المنصور(قلاوون) قدحاً من العصير من المستشفى فشربه وقال : (إني قد وهبت هذا المستشفى الى أندادي واتباعي وخصصته للحكام والخدم للجنود والأمراء للكبار والصغار للأحرار والعبيد للرجال والنساء على السواء) ، ولم يكن هذا كل شيء بل ان العناية الجيدة كانت في الواقع عناية لم يكن يعرفها إلا الأمراء ، ويُروى أن رجلاً نبيلاً من نبلاء الفرس جاء مرة لزيارة مستشفى النوري في دمشق وكانت له دوماً شهوة قوية متجددة للأكل ولدى زيارته هذه فاحت رائحة الشواء أمامه فملأت منخريه ، وسال لعابه وودَّ في ذات نفسه ان يصبح بأسرع مايمكنه مريضاً عليلاً . فدخل المستشفى وأنينه يملأ الجو فعاينه الطبيب طويلاً دون أن يجد فيه علة ، فطرح عليه بعض الأسئلة وأيقن انه أمام جشع نهم عِلَّته في بطنه . فلم يقل له اية كلمة وإنما حوَّله إلى قسم الأمراض الداخلية ووصف له الطبيب هناك شيئاً من العسل مع كبد الطيور والكمء المقلي وقليلاً من المربيات والليمون وكل انواع الحلوى المسيلة للعاب وذلك مرتين يومياً .
ولم تكد تمضي ثلاثة أيام حتى ضعفت مقاومة المريض ، وأصبحت معدته في خطر عندئذ قال له الطبيب : (لقد تمتعت ياصاحبي بالضيافة العربية أياماً ثلاثة فاذهب الآن في سلام الله وليكن الشفاء حليفك ! ) .
التعليقات مغلقة.