الايام نيوز
الايام نيوز

عمل الشرطة في حالات الظروف العادية والنزاعات والحروب(1)

الجنود السوفييت في الحرب العالمية الثانية، كانوا يتغنون بأنشوده، تقول:(إذا في الحرب الإنسان فقد ساقيه … يستطيع معانقة الأصدقاء. وإذا فقد يديه … يستطيع الرقص في الأفراح. وإذا فقد عينيه … يستطيع سماع موسيقى الوطن.

وإذا فقد سمعه …….. يستطيع التمتع برؤية الأحبة. وإذا فقد الإنسان كل شيئ … يستطيع الإستلقاء على أرض وطنه. أما الإنسان، إذا فقد أرض وطنه … فماذا بمقدوره أن يفعل!!).

واقع النزاع المسلح الدائر بين الجيش السوداني ومليشيا قوات الدعم السريع،

طرح على السطح، العديد من الحوارات والمرئيات عن غياب قوات الشرطة من مشهد النزاع المسلح.

وللتعرف على كيان هيئة الشرطة ووظيفتها في ثنائية الدولة/ الوطن، المتعارف عليه، الشرطة قوة مشكلة من موظفين حكوميين نساء ورجال. وأن الشرطة قوة نظامية التكوين والتنظيم الإداري في القيادة والسيطرة، وتحكمها معايير أسس الجندية والعسكرتاريا. وأن الشرطة مدنية التشغيل، لتقديم خدمتي الحماية والأمن، لأفراد مجتمع الدولة. وتبعاً لذلك، زرائعية وجود الدولة وبقائها – The Reason of State يعود للتنظير العلمي للدوله، والذي يُسوق ويُروج له في نظرية الجندية والخيمة، Hetereiria theory، لتجميع مجموعة من الجنود، مختلفين في مشاربهم وسحناتهم، ووضعهم في خيمة واحدة، وتشكيلهم، بتذويبهم في بوتقة واحدة Melting pot.

ولذلك، التنظير للدولة في نظرية الجندية، أنه إشارة للتجمع البشري العائلي والعشائري في تركيبته الواحدة من مكون البطن Phratry، في القبيلة Phyle، حيث روابط الدم البسيطة الممتدة، تشمل روابط العشيرة والحياة المشتركة.

لذلك، الجندية والخيمة، بمعني التساكن والبقاء والتعايش الإنساني المشترك لمكونات التعدد والتنوع الإثني(الجنود)، في متحد الأرض والإقليم (الخيمة)، وحيث الخيمة، إشارة لمعسكر ثكنات إقامة الجنود، ومقار معسكر التدريب والتأهيل للجنود.

وهذا التنظير المفاهيمي عن الدولة، مهم جداً، لأن بقاء أجهزة القوات النظامية في بنية الدوله، له ضرورات حاجية، لبقاء الدولة في مكونات متحد الإقليم والشعب والسلطة.

والتنظير عن أهمية أجهزة القوات النظامية وصلته العلائقية والزرائعية بالدولة، نجده في الفلسفة الشيوعية التعليمية (البراكسيس) عند المفكر العربي المغربي الدكتور/ عبدالله العروي، المتأثر بأفكار ماركس وإنجلز والفكر الشيوعي الحديث عند غرامشي.

لتناول الدكتور/ عبدالله العروي بالتحليل النظرة الإستقرائية للدولة عند إنجلز وماركس، بملاحظة إنجلز إنحلال نظام القرابة الدموي، لنظام القرابة القبلي، الذي حل محله نظام إرتكز على تجزئة الأرض، إلى أوطان قاره، كل وطن مخصص لقسم معين من الشعب.

وبمقتضى ذلك، إستنتج إنجلز، أن التساكن المستمر، يستوجب ضمان الأمن، أي إقامة حرس عمومي.

وبما أن أولئك الحراس لم يعودوا قادرين على إنتاج معاشهم، فلا بد من أن تتكفل جماعة بقوتهم، وهكذا تنشأ، ونشأة الجباية(نشأة الضرائب والرسوم والدمغات الحكومية).

ثم تستوجب مسئولية الأمن والجباية، إدارة جنينية، لا تلبيث، أن تتطور وتتضخم (فهي الحكومة والسلطة العمومية). فيتعالى قسم من الناس، فوق الباقي (وهي فئات الحاكمين والمحكومين)، لأنهم – أي الفئة المتعالية – لم يعودوا مشاركين مباشرة في الإنتاج. وبهذا الإنفصال، تنشأ الدولة (ضمن سياقات تطور مفهوم فكرة الدولة الحديثة في مركبيها:

1. الدولة السياسية في الدستور، و؛

2. الدولة المادية في المجتمع والملكية الفردية.

وتفصيلاته، المجتمع والملكية الفردية، هو الدستور الجوهري الإجتماعي المادي).

ويرى الدكتور/ عبدالله العروي في الوضع الجديد لمفهوم فكرة الدولة – الناتج عن تفكك نظام القرابة الدموي، والمتميز بالإقامة المستقرة وبالملكية الفردية – أنه يستلزم وجود شرطة وجيش (وهي أدوات قمع تستخدمها الدولة).

وهذه تستلزم جباية، وكلاهما، يستلزم قانوناً تنظيمياً. ومن التحليل، ينتهي الدكتور/ عبدالله العروي بتقديم وصف معياري لهيكل الدولة الحديثة، أن كل دولة مكونة من مسلحين (وهي بيروقراطية مدنية مسلحة، تحمل السلاح، وذات تنظيم إداري مُغلق، وتخضع لنظام تراتيبي صارم في تسلسل السلطة، لعملها تحت نظام تسلسل قيادي صارم، تحدد فيه الصلاحيات والسلطات تحديداً دقيقاً، وتكون فيه عمليات صنع القرار من النوع المتجه من القمة للقاعدة). وبحسب الدكتور/ عبدالله العروي، يكتمل تكوين هيكل الدوله من جباة وقضاة (وهي مجموعة قهر وإلزام مدنية). وفوق هؤلاء، توجد جماعة تقوم بربط الإتصال فيما بينهم(بيروقراطية مدنية كتابية قلم كتاب). ويوجد فوق الجميع السلطان (الرئيس، الملك، الإمبراطور، الأمير). وبالتالي، أنموذج هيكل الدولة الإيجابية مكوناتها: الجيش/ الشرطة، الإدارة (البيروقراطية)، الإقتصاد، التعليم.

ولبناء وسائل التوحيد لهيكلة الدولة الحديثة، مكوناتها جيش/شرطة، بيروقراطية مدنية، سوق وطنية، توحيد لغوي.

ويبرر عبدالله العروي آرائه، بضرورة عقلنة الدولة، مستشهداً بآراء فيبير، لأن فيبير يؤكد أن الدولة الحديثة كجهاز معقلن، مكوناته جيش نظامي(أجهزة القوات النظامية)، بيروقراطية مرتبة (مكونات الخدمة المدنية)، قانون مقوعد (تشريعات)، إقتصاد موجه(وسائل كسب العيش والملكية)، لغة منمطة(ثقافة).

لأن الدولة ليست وليدة الرأسمالية، بل وليدة العقلانية.

ولأن حتمية الواقع، الرأسمالية وليدة العقلانية، فالعقل، يحتل المرتبة الأولى في سلم القيم الإنسانية الكلية، فهو بذلك يتحكم في القيم الأخرى.

والتنظير الفكري والمفاهيمي عن أهمية أجهزة القوات النظاميه في بنية الدولة، نجدها في نظرية غرامشي السياسية في التحليل الماركسي عن الدولة وضرورتها، فهو(أي غرامشي) يبرهن أن المجتمع السياسي(أو الدولة) يتكون من:

 1. أجهزة يغلب عليها القمع، وتوابعها، من أدوات القمع(السلطة). فالدولة تتكون من قوى كاسرة(الجيش والبوليس والقضاء. وأحياناً إبان الأزمات، يحل محلها منظمات خاصة كالمليشيات والمرتزقه والثوار..).

2. أجهزة تصوغ التشريعات وتطبقها (البيروقراطية في مكونات الخدمة المدنية)، الحكومة (السلطة)، البرلمان (التشريع والرقابة)، وهي الأداة التي تؤمن بها طبقة ما سيطرتها على الطبقات الأخرى، وهي تتكون كذلك من أجهزة تغلب عليها الأيديولوجية(المدرسة، الكنيسة/ المسجد، الأحزاب السياسية..).

وتؤمن لأقلية الطبقة المسيطرة، رضى أكثرية الطبقات الأخرى، وقبولها بقيادتها لها.

وبوجه عام، أصبح من الثوابت الأساسية، أن الدول الحديثة تضطلع بحفظ الأمن والنظام العام كحق أساسي لها، وتعمل على، بسطه وتوفيره، كسبيل لتأكيد سلطتها، ووضع أهدافها وأغراضها موضع التنفيذ، لتثبيت كيانها، وحماية نظمها العامة، والمدافعة عن حقوقها، وحقوق الأفراد، والجماعات، التي تنشد العيش، الذي يشترك فيه الكافة.

لتوطيد الأمن، ودفع العنف والضرر، داخل الجماعة. ووسيلتها في ذلك:

 1. منظومات أجهزة القوات النظامية، و؛

 2. تشريعات ونظم القوانين، و؛ 

 3. النظم الإدارية المهيكلة في الدولة.

وتنظيماً داخلياً في التشريع الوطني الداخلي، عبارة القوات النظامية،

وردت في قانون القوات المسلحة لسنة 1957م وتعديلاته لسنة 1958م، 1959م، 1968م، 1969م، والقانون لسنة 1983م، والقانون لسنة 1986م، بأن القوات النظامية: يُقصد بها قوات الشعب المسلحة وقوات الشرطة والسجون والمطافئ وحرس الصيد وأي قوات أخرى يصدر بها قرار من رأس الدولة.

وفي قانون القوات المسلحة لسنة 2007م تعديل لسنة 2013م، وردت عبارة القوات النظامية الأخرى، وعرفها القانون: بأنه يقصد بها قوات الشرطة وأي قوات نظامية أخرى منشأة بقانون. 

وأما المدني اللانظامي، تعريفه نستخلصه، من مقاربات، فكرة الجندية، ومن مفهومي العسكرية والمدنية. فكلاهما، (أي العسكرية والمدنية)، بنيتان، متناقضتان، ومتقابلتان، في المبادئ الحاكمة، والقوانين المسيرة، والمخرجات المطلوبة. إذ يحكم العسكري(النظامي)، مبدأ التراتبية، ويسيره قانون الأوامر والتعليمات الصارمة.

ويقاس نجاح العسكري(النظامي) بمدى قدرته على الخضوع والإخضاع لتعليمات وأوامر عليا، أي الخضوع لمن يعلوه في الرتبة، والإخضاع لمن هم دونه فيها.

ويُعتبر نقاش الأوامر والتعليمات قبل تنفيذها خللاً في الجندية والعسكرتاريا، يستحق صاحبه العقوبة البدنية، ويعوقه عن التدرج بالترقي الوظيفي للرتبة الأعلى.

أما المدني(اللانظامي)، فيحكمه مبدأ المساواة، ويسيره قانون الحوار، ويُقاس نجاحه، بمدى قدرته على إدارة الناس، بالعلاقات الحسنة الهادئة المرنة، لا بالأوامر الملزمة المتشددة.

وتعتبر أضداد هذه الصفات في الشخص الإنسان المدني، خللاً في الصفات القيادية للمدني اللانظامي.

ولمعرفة الحالة النفسيه للنظامي(شرطة/ جيش)، ومنطق عقله، لإدارة مسئولياته، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس زولتان براني:(إن صفة الديمقراطية، لا تتفق تماماً مع طبيعة تنظيم الجيوش داخلياً، وأن الجيش هو مؤسسة الدولة الوحيدة القادرة على تدمير الدولة).

وتفسيرات هذا القول، لأن منطق القوة الكامن في النسيج الفكري والقانوني والتداولي،

للجيوش والعسكرتاريا والنظاميين، هو منطق تدميري وإستبدالي قهري، تجاه الآخر، للسيطرة على الأوضاع المختلة الفوضوية، وليس منطقاً بنائياً إصلاحياً، لأن من أدوات القوة، إتباع وسيلة القهر والتسلط والتشدد والغلظة، للسيطرة على حالات الأوضاع الفوضوية السائدة.

وإن كان الفرد العسكري (النظامي)، أنه مدني من الناحية القانونية، ولكنه عسكري في علم النفس وعلم الاجتماع، وفي نظر العقول السليمة.

فالعسكري في توصيف علم النفس، روح لإنسان مدني سارية في الجسد، ولكنها عقلية مُوَجّـِهَة، تكونت عبر عقود عديدة.

لأن المدني، إذا إلتحق بأجهزة القوات النظامية، يحتاج فترة تدريب قاسية، تستمر فترة زمنية، لتقطعه مع القيم المدينة التي نشأ عليها، لتصله بالقيم العسكرية النظامية التي هو مقبل على فضائها، بالتخلص من القيم المدنية، وتشبعه بالقيم العسكرية.

وكما أن المدني يحتاج لفترات طويلة ليصبح قائداً عسكرياً، وكذلك، يحتاج العسكري لفترة طويلة من العيش في كنف الحياة المدنية، ليصبح مدني العقل، ومدني الروح والقيم، ليبدأ في التفكير لقيادة المدنيين، سالكاً السلم العادي الحواري الهادئ. 

والغالب لدى علماء النفس والاجتماع، أن تمدين العسكري، أصعب من عسكرة المدني. وذلك، لقوة تكوين العسكري، وصرامة منهجه الذي تدَرَّبَ عليه. فلا يستطيع التخلص الكامل من عقليته العسكرية – إن استطاع – إلا بعد سنين.

وإزاء هذه المقاربات الفكريه، ينبغي لكلِّ مجتمع في دولة، أن يتجهز بجهاز شرطة مهني قادر فاعل، يكلِّفه المجتمع بمهمةَ حفظ النظام العام، لتقديم خدمتي الحماية والأمن لأفراد مجتمع الدوله، بإتباع وسائل الضبط الإداري المقررة وفقاً للقانون، والعمل على فرض إحترام سيادة حكم القانون، ببسط ونشر ثقافة القانون، حتى يكون القانون، محترماً ومطاعاً بين كافة الناس حاكمين ومحكومين.

ولبيان وظيفة الشرطة في مجتمع الدولة، كلمة Police / شُرْطة، أصلَها الاشتقاقي مأخوذ من كلمة Politique/ سياسة، وهي ذات صلة بدلالة عبارة حُكْم المدينة Polis باليونانية القديمه.

ووجه ذلك، مرامي العمل الشُّرَطي، كمرامى العمل السياسي، وهو إحلال السلام في الحياة الاجتماعية، أي بناء مجتمع متحرر من سطوة العنف.

فوظيفة الشرطة، أن تعمل لأجل المساهمة في ضمانة حريات المواطنين، وفرض إحترام حقوقهم، وضمان أمنهم.

ولذلك، ينبغي على عناصر الشرطة في حالة الظروف العادية، أن يكونوا عناصر سلام، أي ينبغي على أفراد الشرطة واجب، صناعة السلام بين الأفراد والجماعات التي تعيش في المدينة/ الدولة نفسها، بتحييد مُثيري العنف، وكفُّ أذاهم وشرورهم على مجتمع الدولة.

فوظيفة الشرطة، أساساً، وظيفة مضادة للعنف. وينبغي إعمال الوسائل الأكثر فعالية، لبلوغ الغاية المنشودة. والوسائل الأنسب لصنع وإشاعة السلام، وسائل سلمية لاعنفيه. الأمر الذي يلقي عبء على قيادات الشرطة، أن تضع من وقت لآخر، سياسات إستراتيجية فعالة، لتعزيز التدابير اللاعنفية. وينبغي على الوسائل المعمول بها، أن تنسجم مع الغاية، وأن تتناغم معها.

لأن المهمة الرئيسية للشرطة ضمن سياقات منهجية التضاد المزدوج، درء النزاعات،

وحلها عند الاقتضاء، وذلك باللجوء إلى الطرائق اللاعنفية، للتوسط والوساطة والمصالحة، والأمر، فيه، وله، تفصيلاته. 

فريق شرطة(حقوقي) 

د. الطيب عبدالجليل حسين محمود

(المحامي إستشاري القانون المحكم والموثق)

09/ 07/ 2023م

التعليقات مغلقة.