الايام نيوز
الايام نيوز

مشاهد محمد الطيب عابدين. رزنامة حرب قلب الوطن. “

بسم الله الرحمن الرحيم

مشاهد
محمد الطيب عابدين

*رزنامة*

حرب قلب الوطن
“”””””””””””””””””””””””””
( ٣ )

إسبوعها الثالث تدخل حرب ولاية الخرطوم . سلاسل جحافل السُراق المجرمين تعدو مسرعة صوب الأمكنة التجارية، أراهم كأسراب النمل يغدون خِفافاً و يعودون ثِقالاً، يحملون أوزارهم على أكتافهم و فوق رؤوسهم، يأكلون مال السحت في بطونهم، حميم في جحيم . لم يكن الفقر يوماً مدعاة للسرقة، ولا الحوجة مسوغاً للنهب و السلب، ولا المسغبة عذراً للتعدي على أملاك الآخرين الخاصة أو العامة . كان الفقر عزاً و تعففاً في السودان، و الحاجة رضاً بقضاء الله و قدره، و المسغبة درجات يرتقي بها الزهاد .

رويداً رويدا يألف أهل الخرطوم حالة الحرب، يدفنون الموتى . يذهبوب إلى الاسواق الشحيحة المتناقصة عدداً و عدة . يشيعون الحب فيما بينهم عبادةً لله و طهرا . حيناً يضحكون، في قمة الكرب يقهقهون .. ثم يبكون . عندما تتحول ملهاة الحكم إلى مأساة، فشرُ البلية ما يضحك .

هل كُتِبَ على أهل بري الموت في الثورة ؟ .. الموت بعد الثورة ؟ .. و الموت في الحرب أيضا ؟ ! . إحصاءات أولية تنبئ بعدد شهداء مدينة البراري و إمتدادها لما يربو نحو الخمسين من الاطفال و النساء و الشيوخ و الشباب .أي شر اريد بهذه البلدة الطيبة ؟ . نزح و خرج لاجئاً ما يقرب من ٩٥% من أهلها الفضلاء، هُدمت منازل، و مدارس ، و مستشفيات، و مساجد كان يذكر فيها إسم الله كثيراً، بلدة طيبة و رب غفور . يجب أن تعوض هذه المدينة الفاضلة المناضلة بما يليق بأهلها و تاريخها و نضالها القديم و الجديد و المتجدد .

و من يتخذ الضرغام بازاً لصيده
تصيده الضرغام فيما تصيدا ، صدوق المثل العربي القديم، فمن يُطلق الأسد على الناس يتصيدها، ينقلب الدهر عليه فيصيده أسده، ذلك عين ما تفعله الآن مليشيا الجنجويد بمن صنعها و رباها .. و بمن زادها منعة و قوة بما بسطه لها من مواقع إستراتيجية و مال غير معدود، و ذهب و سلاح من خارج الحدود .. ولنا بعد النصر القريب إن شاء الله لجيش السودان، قول مبين واضح صريح …

ذهبنا اليوم إلى سوق ٢٤ الحاج يوسف لإحضار حفنة من ضروريات الحياة، كانت رحلة بالغة المشقة و الخطورة . الأسعار تطير في السماء، و معها أخلاق التجار . وقفنا لساعات في طوابير الخبز، الجميع صامت يتلفت حوله، كلما زغرد صوت الرصاص، جلس الناس القرفصاء يذكرون الله . تمر أمامنا مجاميع النُهاب يحملون ما سرقوا من الأسواق الآخرى، قد أفرغوها حتى من الأرفف، نكتفي بالنظر و أضعف الإيمان سراً، و لا ننطق حرفاً . أعود منهكاً مكدوداً مرعوباً … أخلد لنوم عميق تراءت فيه خيالات من الماضي الجميل … وبضع زخات من الدوشكا و رباعي الطائرات … و رائحة شواء لنقانق و أجنحة دجاج على الجمر، إلى القريب منه ابريق زجاجي يقطر ندى مخلوط المانجو البارد بالحليب .

نصحت لصاحب حانوت الحي أن يبيع أطباق البيض المتراصة منذ فترة، بسعرها الاول، فالبيض لا يقوى على سخونة الجو في إنقطاع الكهرباء، أبى و استعصم برأيه، و أغلق الحانوت، و لما عاد يطلب شيئاً منه لبيته، وجد البيض كله قد فسد، ألم يقل اهلنا قديماً ( الطمع ودر ما جمع ) .

أين ذهب دهاقنة السياسة الافشل على مر تاريخ السودان، و اين ذهب قادة الحركات المسلحة جميعهم – عدا تمبور – صدعونا بثرثرة جوفاء و إدعاء المعرفة في كل شئ، الجلابة .. الشريط النيلي .. الشمال.. المركز و الهامش .. لماذا صمتم وقت الحرب اللعناء وقعت على هامة سيدة المدائن خرطوم درة النيلين ؟ . هنا وضعنا الله، وهنا سنبقى، و هنا نموت . لن يستطيع بعد اليوم أحد ان يخيفنا بالحرب أو الموت، ذقناها و جربناها و عشناها رأي العين، و لا يدعي علينا مدعي متحزلق بأن حرب الخرطوم لم تدم غير أسابيع ، حتى الآن ، فحرب قلب الوطن ليست كأي حرب، يومها بألف سنة مما تعدون، و خرابها أعظم مما تعرفون، و شرها وبيل مستطير يعم كل أرجاء البلاد، كما عم خيرها العميم . هي القلب يضخ الحياة لجميع أطراف الجسم، فإذا عطب القلب تيبست الأطراف و فارقت الحياة . لا حياة و لا وجود لسودان دون الخرطوم .

لن يظل السودان رهناً لإصطراع الأوهام المدمر بين يسار منغلق منعزل، و يمين طائفي متطرف . بين قوى الحرية و التغير اليائسة الفقيرة العجفاء، و قوى الكتلة الديمقراطية الهزيلة كثيرة الجعجعة قليلة الطحين . السودان ليس ملكاً لهؤلاء الذين تسببوا في هذه الحرب ( ضمن أسباب آخرى) بفشلهم الدائم، و عنادهم الأحمق كالبغال . لن يكون السودان بعد الحرب، كقبلها . و لن يكون الحكم و السياسة كسابقها قبل الحرب اللعينة، هذه الحرب تصنع تاريخاً جديداً … و مستقبلاً جديداً .. و سوداناً متجدداً . حتماً، بل يجب أن يحدث تغيرياً جذرياً، كما حدث فى حياة الناس بالخرطوم، زلزال بدل وجه الدنيا و أحالها قاعاً صفصفاً . كذلك يفعل الله ما يشاء .

يتبع بإذن الله

محمد الطيب عابدين
بري أيقونة الخرطوم
الخميس ١١ مايو ٢٠٢٣م

التعليقات مغلقة.