المدينة التي طارت عصافيرهاصديق خضر محمد
المدينة التي طارت عصافيرها
صديق خضر محمد
الخرطوم التي ترقد على نهر النيل صارت موحشة و تحول الكثير من أحيائها لأحياء من أشباح تشم منها رائحة الموت و الدمار و الخراب ..أحياء بكاملها هجرها سكانها و صارت مرتعا للكلاب و القطط فقط .. الجثث في كل مكان و سيارات الدفع الرباعي المحترقة و المدمرة تملأ الطرقات و آثار الحرائق ما تزال على أبنيتها كأوشام بارزة ..
بحري القديمة صارت من الماضي فلا أحد يقابلك من سكانها و لا دار يقطنها إنسان ..عندما تقترب من البيوت تشعر بأنك أمام بيوت من القرن السادس آلاف السنين لم يدخلها بشر !!!!….
في الأملاك لم يقابلني أحد حتى ( جعفر المجنون ) الذي كان يقيم تحت الأشجار و ظلال البيوت و في مجاري الصرف الصحي لم أجده فلعلة الرصاص و دوي القنابل و أزيز الطائرات جعلته يهرب بجلده ربما .. او أصابته رصاصة طائشة ألحقت جسده بعقله ..نادي العمال حيث الضجيج و الصخب الذي كان يحدثه الميكانيكية و السمكرجية و بائعين قطع الغيار صار الصمت و السكون يلفه و أصبح كالمقابر.. مطعم القراصة لم أجد سوى بعض الكلاب الضالة ترابط أمامه أظنها تعشم في ان يفتح أبوابه في أي وقت لعلها تظفر ببقايا عظم او كسرة خبز .. الغريبة أنها عندما رأتني كلها هزت ذيلها و جاءت نحوي ذليلة منكسرة كأنها تستفسرني ما الذي حدث !!!؟؟
عند الصالة الذهبية وجدت بعض الشماسة و هم يجلسون في رعب و خوف و يستمدون الأمان و الإطمئنان من بعضهم البعض .. عاجلوني خوفا مني لا العكس ( مافي حاجة هنا يا جنابو ) !!
بعد هذه الجملة إنسحبت مسرعا فهذه الكلمة ستصنفني عدوا لكلا الطرفين المتحاربين !!
عدت أدراجي بشارع سوداتل متجها غربا لمنطقة السوق فهالني ما رأيت من دمار و خراب و حرائق و لأول مرة وجدت أشخاص هنا و هناك أظنهم ما يطلق عليهم ( أولاد السوق ) حذروني من التوغل أكثر لوجود قناصة في الأبنية العالية .. رجعت بشارع المزاد متجها نحو ميدان المولد لا ركشة و لا سيارة و لا حتى دراجة تشاركني الطريق و كل مرة أسأل نفسي ( ما الذي أتى بي إلى هنا !!؟؟) و ( ما السبب الذي جعلني على حافة الموت !!؟) …
أم درمان بعض الأحياء ما تزال تعيش على حافة الحياة .. مخابز تعمل و متاجر تفتح أبوابها و بائعي الخضار يروجون لخضارهم و المواصلات تعمل و ستات الشاي على الطرقات يتحلقون حولهن بعض الشباب كأن لا حرب في مدينتهم..!!!
تفحصت الوجوه رأيت كآبة و حزنا و وجعا و ترقبا للمجهول …ثمة خوف و رعب في العيون خاصة بين النساء لكنهم يتشبثون بالحياة يخافون من الجوع قبل خوفهم من الموت برصاص طائش او دانة حائرة ..
البعض يصر على عدم الرحيل يقولون الخرطوم بالنسبة لهم ليس رقعة جغرافية بل ذكريات و وجدان و تأريخ و حب و خصام و ألعاب و ترفيه و مشقة و تعب و عناء و تعليم و هلال مريخ و سينما الوطنية و العرضة و عمارة محمد حسين و سوق أم درمان و سعد قشرة و أستاد التحرير و المؤسسة و نيمة شمبات و ووو….
هؤلاء يفضلون الموت على التهجير و التأقلم على أصوات المعارك من الرحيل المر ..
عتبات أبوابهم هي خنادقهم و حيشانهم هي مقابرهم ..
لم تزل الخرطوم تلك المدينة الضاجة بأرتال البشر و السيارات و الدواب .. لم تعد تلك المدينة التي تتوضأ من نهر النيل و تقيم الصلاة في مساجد النيلين و الميرغنية و البرهانية .. لم تعد الخرطوم تلك المدينة القرية بل صارت قرية أشباح ..
صارت الخرطوم المدينة التي طارت عصافيرها بعيدا …
حاشية :-
معاناة الطرق و كيفية الوصول و الرجوع سأتطرق إليها في منشور آخر
التعليقات مغلقة.