الايام نيوز
الايام نيوز

مشاهد محمد الطيب عابدين يكتب رزنامة حرب قلب الوطن (٧)

بسم الله الرحمن الرحيم

مشاهد
محمد الطيب عابدين

رزنامة

حرب قلب الوطن
“””””””””””””””””””””””””””””
( ٧ )

الحرب تمنحك – بسخاء – يوماً واحداً فقط، تستنسخه لك طوال الأسبوع، و الشهر .. و أخشى ، و أعوذ بالله ، أن تكرره حتى العام .

أفيق فجراً لصلاة الصبح . أفرغ من أورادي . بعد الشروق أعاود النوم كرةً آخرى .. اصحو ثانية في السابعة صباحاً . أراجع تخزين المياه لأعيد ملء ما نقص . ارتب بعض الأغراض . أعِد حافظة الماء البارد . أستحم . أقرأ في كتبي كثيراً، تلك هوايتي المحببة . أدون بعض الملاحظات و الأفكار . أصلي الظهر . أغفو القيلولة . أصحو لصلاة العصر . ثم وجبة الغداء . أصلي المغرب، ثم العشاء . اعبث في هاتفي قليلاً .. ثم أنام .

يوم واحد يتكرر بنفس الروتين و الملالة الراتبة، ما من تغيير إلا يوم الجمعة للصلاة و رمي النفايات .. نسخة واحدة تتكرر طبق الأصل يومياً، حتى أنك لتحفظ معالم البيت عن ظهر قلب، كل خربشة في الجدار، أو نملة في ركن قصي أو عدد لفات المروحة في كل سرعة في الدقيقة الواحدة …

ليس في الخروج من الديار ، رغم مرارته على النفس ، ثمة عيب ولا عار يخجل منه، ولا في البقاء شجاعة و فراسة يفتخر بها؛ لكل ظروفه الخاصة، وحقه في تقدير الموقف، و تغليب مصلحة أطفاله و زوجه . فليكف الذين مكثوا في بيوتهم عن الإزدراء و التنمر و الإستكبار على الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت .. الله اخرجهم .

( بعض ) أهل الولايات باتوا يكنون أهل الخرطوم الذين ذهبوا إليهم بالنازحين، وهو مصطلح صحيح لا إثم فيه، فمن يخرج من داره حرباً إلى مكان آخر داخل البلاد يسمى ( نازح ) و من يذهب خارج الوطن يدعى ( لاجئ ) ، ولكن إستخدام المصطلح ( من البعض ) بهذه الكيفية فيه ملمح من السخرية و ظلال من الشماته؛ على الرغم أن جل الخارجين هم أصلاً من أهل الولايات، بعضهم إنقطع عنها، و آخرين عليها كانوا مداومين بالزيارة؛ لم يقلها ( نازحين ) السوريون عندما نزح بعضهم إلى مناطق آخرى، كانوا يقولون أهلنا من حلب .. أهلنا من القامشلي … أهلنا من الحلفاية، كما لم يقل ( لاجئين ) مراسل قناة الجزيرة الأثيوبي من معبر القلابات، إذ قال :
{ من الصعب أن نطلق على هؤلاء لفظة لاجئين ، كلهم قادمون من الخرطوم و من الواضح أنهم من الأسر المقتدرة وهم يسألون عن المناطق السكنية الجيدة } …

هذه الحرب أخرجت كل علل و أمراض المجتمع السوداني، أخرجتها من قاع المجتمع و قذفت بها على وجوهنا، نبشت المسكوت عنه و المخبؤ في عقولنا الباطنة الواعية والغائبة و المغيبة .. أخرجت العنصرية المنتنة بعد أن تعفنت في صدورنا .. أزالت قناع التعصب الجهوي و القبلي و المناطقي، فبان وجهه القبيح .. حفرت أخدوداً عميقاً بين أهل ( دار صباح ) ، و( بعض ) مكونات الغرب السوداني و غرب أفريقيا، أكرر ( بعض ) فلا نقبل التعميم الجهول .. أبانت حقيقة التردي المريع في الأخلاق .. أثبتت لنا أن بعض الناس عندما يحمل سلاحاً يتحول الى حيوان كاسر .. فضحت غريزة الخيانة و الكذب و الانانية الكامنة في أحشاء ضعاف النفوس .. وضحت لنا بسفور تام مدى فحش الحقد الطبقي الذي يمور في خويصة نفوس البعض منا .. كشفت عورة المجتمع السوداني في قارعة الطريق، … كيف يسرق الرجل ممتلكات جاره، فقط لأن اللصوص تركوها ملقاة على الأرض ؟ ..

*إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ..

و لا يظنن ظان بإن السرقة المتوحشة التي تفشت وباءً في الخرطوم، هي من فعل قبيلة بعينها، أو مكون قبلي جهوي معين، او عنصر أفريقاني فقط ، او عروبي؛ الجميع رأيتهم ، بما فيهم أجانب . يسرقون . ينهبون . يكسرون . يحرقون . و يخربون بيتهم ( السودان ) بأيديهم . حالة من الهوس و الجنون إجتاحت المجتمع، و أختلطت حسابات الحقل و البيدر كما يقولون .

و من جانب آخر أكدت الحرب ما هو مؤكد من نبل أخلاق و كرم و مرؤة أهل الريف السوداني . ذاك مستودع الأخلاق الكريمة الذي منه ننهل جميعاً و نتعلم .. حتى يعود الزمان كذياك الزمان

مطرانيات الأقباط في بحري و أمدرمان، وغيرها في الخرطوم، تعرضوا إلى إعتداءات ( عنصرية دينية ) من قوات الدعم السريع، كُسِرت و نهبت مقتنيات و أموال ثمينة، و طرد الرهبان و القساوسة .. حتى أباء الكنيسة لم يسلموا من التنكيل بهم .. هذه ليست من أخلاق المجتمع السوداني الذي يحترم التعددية الدينية و حرية الإعتقاد بها، لم يحدث ذالك الإعتداء مطلقاً في أحلك الظروف التي مر بها السودان، إلا من متطرفين و غلاة الفكر الديني الشاذ . أنا كمسلم متدين أرفض ما وقع على الكنيسة و أستهجنه و أدينه . حتى نيافة الأنبا صرابمون لم يسلم من الضرب في رجله كي يفتح خزانة المطرانية ، وهو رجل كبير السن و المقام .. و في النهاية خرجوا جميعاً و تركوا لهم الكنيسة .. و كانت النتيجة موغلة في المأساوية

أبطال الحرب هم، أبناء الجندية السودانية، الذين لا ينتمون لحزب سياسي، لا يعرفون عصبية القبلية و لا الجهوية، و ما العنصرية، فقط ( الديش) يعرفون . من يسقي للناس ماءً ثم يتولى إلى الظل، بطل . من يُقفل بيت جاره الغائب، بطل . من يُعِين الناس في زمن الكًربة العظمى، هو البطل . من مات شهيداً، قام فوق البطل . أسرتي أيضاً بطل .

حب الأوطان من الإيمان، و التعصب للوطن سمة حضارية؛ و الخائن عكس البطل .

يسار السودان، المنغلق تنظيمياً، المتحجر فكرياً، الضئيل عددياً؛ و قوى الحرية و التغير إتخذا لنفسهما موقفاً من حرب قلب الوطن
( كتلة الخرتوم )، إنتبذا به مكاناً قصيا، و أصطنعا له شعاراً رمادياً ( لا للحرب، نعم للسلام )، كلمة حق أريد بها كل الباطل؛ من كان يريد الحرب، و من يكره السلام ؟ ..

من هددنا بالحرب و الموت الذوئام . وهو في حقيقة الأمر إنما يناصر الدعم السريع، و يباغض جيش السودان، بحجة أن الجيش ( جيش الكيزان )، نعم قد عبث المؤتمر الوطني و حركته الإسلاموية بالجيش و أخترقوه كما عبثوا بكل مؤسسات الدولة، ولكن لم يستطيعوا أن يحولوا السودان و شعبه إلى دولة ( إخوانية ) ، بقي السودان يعتنق تعدديته الحزبية و عقيدته الديمقراطية ولو كره الجلاوزة . هل يستطيع أي يساري أن يجزم بأن كل ضباط و ضباط صف و جنود الجيش السوداني هم جميعاً ( كوزانيون )، دعك من ذلك فهو عصي عليهم، هل يجرؤ رفيق منهم أن يقسم ( بالله ) ان كافة ضباط الجيش من أعضاء الحركة الإسلامية ، حتى و إن كان البعض كذلك ، لماذا الإصرار على تمزيق جيش الوطن و تفتيته، بدلاً من إصلاحه و تطويره و تحديثه، و لماذا يختبئ هذا اليسار المتعسر ، دوماً ، خلف شعارات ظاهرها فيه الرحمة و باطنها من قبله العذاب ؟ ، متى يكف أل يسار ( أل أشول ) عن أحلام اليقظة و ( أحلام ظلوط )، فما عاد السودان في عهد الأربعينيات و الخمسينيات حين أزدهرت الشيوعية و اورثته من أمره عُسرا، أما الآن ( لم تعد الشيوعية هي ملاذ الطبقة العاملة ) كما قال الدكتور صدقي كبلو بجرأة في المؤتمر الاقتصادي في الفترة الانتقالية الأولى … 《 راجع الطوطم – فتحي الضو – ص ١٥٥ 》.

كما لم يعد اليسار ( كله ) ملاذاً للوسط أو حتى يسار الوسط، فللوسط أهله، بل ما عاد ملاذاً لكل صاحب بصيرة يفرق بين الوطن و الحكومة ، و لن تقوى شعاراته البالية المهترئة على شاكلة ( الإمبريالية، الطفيلية، الرأسمالية،البرجوازية الصغيرة، و يا عمال العالم إتحدوا ) على الصمود أمام رياح صرصر العاتية التي هبت عليه فزعزعت أوتاده القديمة و ذهب مع الريح .

يقول التاريخ أن حزب الأمة أول من إخترق الجيش عبر بعض الضباط ( الأنصار ) وقد كانوا محدودي العدد، وهو ، حزب الأمة ، أول من سنٌَ سٌنة الإنقلابات العسكرية في السودان بإنقلاب عبود عام ١٩٥٨م ، ثم كان الحزب الشيوعي السوداني هو أول من جعل له خلايا منظمة و منتظمة في الجيش، أيضاً فعلها القوميون العرب، و حزب البعث العراقي ، تبعهم بعد ذلك الحركة الإسلامية . الكل دبر و خطط و اخترق الجيش عدا الحزب الإتحادي الديمقراطي، لم يقرب ذاك الأثم العظيم .

شارك الحزب الشيوعي بخلاياه العسكرية في إنقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩م، مع القوميين العرب، ثم قام بإنقلابه الخاص في ١٩ يوليو ١٩٧١م ( الحركة التصحيحية ) إنقلاب هاشم العطا الذي حدثت فيه مذبحة بيت الضيافة، و قبلها في إنقلاب نميري إرتكب الحزب الشيوعي مذبحة كبرى في الإقتصاد السوداني ( التأميم و المصادرة و طرد الاستثمار الأجنبي ) كانت تلكم بداية إنهيار الاقتصاد الذي يتضعضع اليوم، كما سنت عصبة مايو الحمراء سٌنة سيئة ( تبعها فيها الكيزان لاحقاً بالفصل للصالح العام ) بفصل و تشريد جحافل من العاملين في الدولة بحجة عدم التقدمية و الثورية .

لا خير في يسار منغلق و لا يمين متطرف، لا خير في شيوعي متحجر الفكر، ولا إسلام سياسي متطرف الفكر، كلاهما في الشر سواء، لا يؤمنون بالديمقراطية و التعددية الحزبية إلا حين يغدون في المعارضة، فإذا حكموا تحولوا إلى دكتاتوريين قساة قتلة و أجلاف . فوالله و تالله إذا قدر لليسار أن يحكم ثلاثون عاماً كما حكم الإسلام السياسي في السودان ؛ لفعل مثل ما فعلوا، بل فوق ما فعلوا، لمكن لنفسه و رفاقه في الجيش و كل دهاليز و أركان و مسام الدولة السودانية . هما ( اليسار + الكيزان ) وجهان لعملة واحدة غير مبرئة للذمة، وجهها الأول أحمر ( طٌرة ) ، و الآخر أغبر ( كتابة معطوبة ) .

كلاهما يتحمل وزراً في هذه الحرب اللعينة، الأول صنع الدعم السريع .. و الثاني أراد إستغلاله للوصول للسلطة و تحقيق مأربه … و لكن للدعم السريع مشروعه الخاص لا مكان فيه لأحد إلا أن يكون تابعاً ذليلاً .

أراوح مكاني بين النافذة الشمالية و الجنوبية، و إلى الشرقية، أراقب كيف تتحول محبوبتي الخرطوم إلى مدينة أشباح غاضبة، صارت البيوت المنهوبة فيها حوائط باردة بلا حياة، يجري في قاعها لاهثاً التراب، تدخل الريح من دبره و تخرج من الباب، لها صفير .. و صفير الريح خراب .

 يتبع بإذن الله ،،، 

محمد الطيب عابدين
بري أيقونة الخرطوم
الأحد ٤ يونيو ٢٠٢٣م

التعليقات مغلقة.