تأملات في حرب السودان
-الجزءالثاني-
-عطفا على ما تقدم في الجزء الأول من هذا المقال فإن الذي يستقرئ التاريخ إنما يدرك أن هذه الحرب ذات جذور بعيدة ربما تعود إلى الحقب الاستعمارية القديمة التي ما غزت السودان إلا طمعا في ذهب أو رجال أو بحثا واسكتشافا لمنابع النيل لضمان كفالة إنسياب خيرات هذه البلاد الواقعة على تخوم الصحراء الأفريقية الكبرى إلى بلاده – كان هذا هو الحال في ما مضى من التاريخ قريبه وبعيده ،فالتاريخ المولع بإعادة نفسه -لعل عاقلا يتعظ او حكيما يعتبر- حاله في ذلك تماما كحال أبي الطيب المتنبي عند مروره بشعب بوان وهو يقول :
لها ثمر تشير إليك منه بأشربة وقفن بلا أواني.
-فالتاريخ يأبى إلا أن يمد إلينا بأشربته لعلنا نغترف منه العبر ونستلهم منه الدروس لنستشرف مستقبل أمتنا ..لكننا وللأسف نرفض -حتى الآن- هداياه في غباء نحسد عليه.
-هذه الحرب بكل قبحها وسوءاتها ربما تبقى الفرصة الأخيرة لنعيد التفكير ونرجع البصر كرتين لنرى مكامن العلة ومواطن الضعف والهشاشة في البناء النفسي والسلوكي للمجتمع فنتدارك الخلل ونعالجه حتى نستفيد كأمة من الصفات الأخرى العديدة المميزة لهذا الشعب الكريم ولنؤسس عليها مستقبل هذه البلاد التي تخصنا(هذه الأرض لنا ).
-هذه الحرب وبلا أدنى شك ضد الوطن والأرض والشعب …وشواهد ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد ،،،فالذي رفع شعارات الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية وهدم دولة ٥٦ و محاربة الفلول لعله يدري أو لا يدري قصدا منه كان أم جهلا أنه قد عمد إلى العلاقات الاجتماعية و الوشائج الرحمية والأواصر الأسرية التي انصهرت فيها قبائل السودان عبر القرون- مشكلة هذه اللوحة من الفسيفساء السودانية المميزة (ناس من كل لون اتعمرت أنسابا ) التي سكنت هذه الأرض وشكلت نسيجها المتفرد ولحمتها القوية فقطعها،قبل أن يهدم البنى التحتية للدولة ومقوماتها الأساسية
الأمر الذي يجعل من هذه الشعارات المرفوعة مجرد هراء يستحيل تصديقه .
-إن استقراءنا لهذه الحرب لا ينبغي أن ينفك أو ينفصم عن سياق ما يجري في العالم حولنا فحرب اوكرانيا ضد روسيا ومن خلف أوكرنيا يقف الغرب بغضه وغضيضه وخيله وخيلائه
،أو حرب روسيا ضد أوكرانيا و من خلفها تقف مجموعة البريكس(روسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند والبرازيل) والتحالفات والاصطفافات المعلنة وغير المعلنة هنا أو هناك و التي تتطلع في إصرار نحو تشكيل عالم جديد على أنقاض النظام العالمي القديم الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي لم يبقى فيه موضع شبر من ثوب الصدق والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان الا وبه فتقا قد اتسع على الراتق ،ودونكم ما يجري على الأراضي الفلسطينية المحتلة من قتل وإبادة جماعية وتهجير قسري وتجويع …إلخ،،،وقف المجتمع الدولي أمامها عاجزا وعاطلا عن فعل أي شئ يمنع هذه المجازر تحت وطأة عصا الفيتو الأمريكي.
-هذه المعطيات لا ينبغي أن نهملها او نغض الطرف عنها عند قراءتنا للمشهد السوداني برمته بل يجب أن نسقطها على ما يحدث هنا في أرض النيلين أو أرض كوش(أرض العسل واللبن والذهب كما في العهد القديم ).
-إن الحرب المستعرة الآن في شرق أوروبا بين روسيا وأوكرانيا جعلت ازمات الغرب المتراكمة ببطء وتتابع تتمظهر بشكل واضح في كيفية التدبير والتفكير حول ضرورة تأمين تدفق إمدادات القمح والغاز لأوروبا ومن ثم البحث عن أراضي بديلة وغير ذات كلفة عالية في إخضاعها وتطويعها خدمة لذلك الهدف؟ فاتجهت أنظار القارة العجوز والغرب المتغطرس نحو السودان والجزائر فالسودان بأراضيه الشاسعة الخصبة يمكن أن يعوض النقص الكبير في المنتوجات الزراعية الأوكرانية،والجزائر يمكنها تأمين تدفق إمدادات الغاز لأوروبا ولعل هذا ما يفسر التحركات الأخيرة ضد الجزائر والتي تشترك مع السودان في بعض المميزات الجيواستراتيجية حيث الأراضي الشاسعة الممتدة والمطلة على الساحل الأوروبي وما تختزنه في باطنها من نفط وغاز وفوسفات يسيل له لعاب الدول الأوروبية التي أفلست ماديا وأخلاقيا .
-ثمة أمر آخر في ذات الاتجاه هو أن إسرائيل ليست بعيدة من هذا السياق فهي تتحرك في إطار لعبة الغاز والنفط و السيطرة على طرق التجارة العالمية لكن غزة تبقى هي العقبة الكبرى أمام تحقيق هذا المشروع فكان لزاما على الغرب تهجير سكانها الذين يمثلون عائقا رئيسيا يمنع اتمام هذه المشروعات ويحول دون إنشاء وتشغيل قناة بن غوريون ومد خطوط الغاز عبر المتوسط إلى أوروبا .
-السودان كما الجزائر به شعب عنيد معتد بأرضه وكرامته وتجري تحته سلسة من الأنهار العذبة ويملك ساحل طويل بكر يرقد وادعا محتضنا واحدة من أهم الممرات الملاحية التجارية على مستوى العالم فضلا عن كم هائل من الثروات الأخرى كالمعادن والثروة الحيوانية والسمكية والمساحات الشاسعة من الأراضي و السهول الخصبة غير المستغلة في معظمها
ولعل هذا ما يفسر احتلال الدعم السريع لولاية الجزيرة والنهب الممنهج لكل مظاهر الحياة فيها من مصانع بما فيها أصول مشروع الجزيرة الزراعي نفسه ،،،ثم الاتجاه نحو القرى وسكانها فأعمل فيهم قتلا و ترويعا وترهيبا وتشريدا ونهبا واغتصابا ففر عدد غفير منهم (خاصة النساء واالأطفال وكبار السن) طلبا للنجاة أمام آلة خرقاء لا تعرف الا القتل والسحل والدمار،،، وكأن الذين يخططون لهذا المشروع الاستعماري يريدون هذي البلاد أرضا محروقة بلا سكان فيتسنى لهم إعادة تشكيلها و زراعتها كيفما اتفق، ليذهب خراجها و ريعها لبلدانهم عوضا عما كان يصل إليهم من أوكرانيا ،، والتي تذهب بعض التقديرات الى أنها كانت تمد العالم بثلث احتياجاته من المنتوجات الزراعية وأكثر من ٥٠% من احتياجات الغاز بالنسبة لأوروبا.
-قد يقول قائل: هناك دول أخرى ربما تكون أغنى من السودان كالبرازيل و الهند على سبيل المثال فلماذا يقصدون السودان تحديدا؟ والإجابة ببساطة هي ان الغرب إنما يتخير أبدا الحلقة الأضعف والأقل كلفة فالسودان اليوم به كثير من العملاء الجاهزين الذين عمد الغرب على تبنيهم وتنشئتهم لسنوات طويلة وها قد جاء دورهم لسداد الدين بتلبية رغباته الآثمة وإن أدت إلى تدمير وطنهم وقتل وتشريد أهلهم كما نرى الآن،،،وهم مع ذلك يلوكون في سلوك تعويضي مثير للدهشة والشفقة شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة،،،ولعل المضحك المبكي في هذا الأمر أن الذين يغذون أوار هذه الحرب ويبقون جذوتها مشتعلة من خلال مظاهرة ومساندة التمرد الإرهابي الغادر ماليا ولوجستيا وإعلاميا وسياسيا وحتى عسكريا هم أبعد مايكونون عن هذه الشعارات وقد تبلغ المسافة التي تفصل بينهم وبين قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عددا من السنين الضوئية.
دكتور معتز فضل فضل الله مستشار قانوني وباحث
السودان في ١٠ مايو ٢٠٢٤م
التعليقات مغلقة.