المؤتمر السوداني تحت المجهر
الغافل من ظن الاشياء هي الاشياء ( 1 من 10)
مدخل:
يعتبر “حزب” المؤتمر السوداني من “الأحزاب” الخمسة أو العشرة الاكثر أهمية في السودان اليوم . وتأتي أهمية هذه “الأحزاب” ليس من وزنها الفكري أو الاجتماعي ، وانما من علاقتها بشبكة السلطة الحاكمة في السودان ، ومن هذا المنطلق تستحق هذه “الأحزاب” الاهتمام، ويستحق هذا “الحزب” ان نضعه تحت مجهر البحث والتحليل .
ونحن هنا نستخدم كلمة الأحزاب السياسية مجازا ، حيث اننا في السودان نفتقد فعلا وجود احزاب حقيقية . فما نملكه في السودان هو كتل طائفية أو مجموعات ايدلوجية أو شلل سياسية انتهازية لا يربطها بالاحزاب الحقيقية اي رابط، وتستمد قوتها فقط من قربها من جهاز الدولة وشبكات السلطة الحقيقية، الداخلية منها والخارجية. وهذه المشكلة احد أهم اسباب الازمة السياسية والفشل السياسي المستدام في السودان. *
لقد كتبت قبل عدة سنوات مقالا عن “حزب” المؤتمر السوداني ضمن مجموعة من المقالات لم تكتمل عن الأحزاب السياسية في السودان. وقد حاولت في ذلك المقال ان اذكر ايجابيات وسلبيات ذلك “الحزب” ، لكني كنت منطلقا من مواقع التعاطف والعشم مع ذلك “الحزب”، لذلك كانت رؤيتي للايجابيات اكثر من السلبيات. **
للاسف الشديد ان النظر التحليلي الناقد اليوم يثبت ان جوهر ذلك “الحزب” ليس كمظهره، كما ان الواقع قد قدم اجابات قوية على تساؤلاتنا في ذلك المقال عن سيرورة هذا “الحزب” ، حيث انحسرت الايجابيات وزادت السلبيات، وانكشف المخفي وبان للعيان.
في سبب هذه السلسلة:
لقد وعدت قبل أيام بكتابة هذه السلسلة من المقالات ، وقد كان ذلك ردا مباشرا على استفزازات بعض من عضوية ذلك “الحزب” لشخصي، وانا اسجل انحيازي للشهداء والشباب في مطالبهم الثورية، وارفض منهج الانتهازية والتسوية.***
لكن رغماً عن ذلك الاستفزاز فهناك اسباب موضوعية للكتابة ، وهي فحص مكونات الازمة السودانية ، كما هناك تنفيذ لوعد قديم قدمته في مقالي عن ( سوق النخاسة السياسية في السودان) ، بالتعرض التفصيلي ، الاجتماعي والفكري والسياسي ، للقوى الفاعلة في ذلك السوق ، والتي يشكل “حزب” المؤتمر السوداني اليوم واحدا من اهمها. ****
لذلك رغم الاستفزاز توقفت أياما لاهديء الاعصاب واجرى بعض البحث، وذلك كي اتحرر من مشاعر الحب والغضب ، ولكي يكون بحثي موضوعيا بقدر الامكان، ولكي يستفيد القاريء مما ينفع الناس، ويذهب الزبد جفاءا.
حول منهجية البحث وتفاصيله:
ساستخدم في هذه المقالات المنهج النقدي التحليلي ، الاجتماعي منه والتاريخي كمنهج للبحث. سانطلق اولا من الواقع التاريخي لنشأة هذا “الحزب” ، واحلل التكوين الاجتماعي لمؤسسيه وعضويته وقاعدته، وأحاول فك التناقض ما بين قدرة “الحزب” على تحقيق بعض الاختراقات في مناطق الريف والمناطق المهمشة ، مع بقاءه بالكامل حزبا معبرا عن سياسات ومصالح المركز ونخبة المركز في السودان.
كما ساضع تحت المجهر فكر هذا “الحزب” ، أو فلنقل بصورة اوضح (لا فكر) هذا الحزب ، فلقد مارس المؤتمر السوداني بحق الفهلوة الفكرية والميوعة الايدلوجية، وتفوق فيها حتى على اساطنتها من دهاقنة السودان القديم ، من الطائفيين والعروبيين . وإن كان المؤتمر السوداني يبدو حزبا لا ايدلوجيا في مظهره، رغم تغطيه بخرق فكرية بالية يسرقها من هنا وهناك، مثل فكرة التعاونية، أو فكرة المركز والهامش، أو التحليل الثقافي ، فأنه يبقى في المحصلة حزبا للاسلاموعروبية في اكثر تجلياتها ظهورا، وهذا من عبث وتناقض السياسة في السودان، ان يقول الفرد او “الحزب” شيئا ، ويبطن شيئا آخر .
ولن يكون الامر ممتعا دون التطرق لقضايا الرمز، ووهم الاستقلالية، وهلامية الشعارات بما فيها الشعار البصري، وملامح الطائفية الجديدة الكامنة في التمسك بإسم غير ذو معنى . كل ذلك لجمع التناقضات وطمسها، وتكبير الكوم للدخول في سوق النخاسة السياسي ، والهرب من مستلزمات بناء حزب حقيقي ومواجهة قضايا التغيير الفعلية.
كما ساتطرق في هذا البحث لثيمة السلطة وهي ثيمة مركزية في نشاط هذا “الحزب”، تمثلا بالمقولة المنسوبة لخالد سلك، القائد الحقيقي للمؤتمر السوداني اليوم، والموتور المحرك لتيار الانتهازية السافرة فيه، والتي تقول ان الحزب الذي ليس في السلطة ليس حزبا . وسنحاول بالرصد الدقيق ان نوضح ان قضية المؤتمر السوداني الاساسية اليوم ليست هي التغيير، وانما ممارسة السلطة بنفس طرائق ومنهجية السودان القديم ، مع اضافة بعض البهارات الجديدة عليها، وتزيين البيت القديم بديكور جديد، وصب الخمر القديمة المسمومة في قناني جديدة.
كما ساتطرق في هذه المقالات لعلاقة هذا “الحزب” الطفيلية بمؤتمر الطلبة المستقلين، وسرقته لنضالات ذلك التنظيم الطلابي المتقدم، وتجربته مع الحركة المستقلة، ومناوراته مع قوات التحالف في حينها، ولاحقا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ، لاوضح كيف تعمل آليات الخداع الايدلوجي والتضليل السياسي في الممارسة.
ولن يكون هذا البحث مكتملا دون التطرق لموقف هذا “الحزب” الحقيقي من قضايا المواطنة، وعجزه عن تبني مفهوم المواطنة الكاملة، وذلك لسقوطه في اختبار كل من الليبرالية والعلمانية ، وفشله في تبنيهما باعتبارهما الاساس الذي تتشكل عليه اي ديمقراطية ليبرالية واي دولة للمواطنة ، وتخاذله عن اي قضايا حقيقية فرضها الواقع في هذا المجال.
ويتفرع من هذا الموقف – أو اللاموقف- اداء “الحزب” فيما يتعلق بالديمقراطية في المجتمع ، وهو الاداء الاعرج الذي انكشف بعد الثورة ، وانحياز الحزب للتحالف مع جنرالات البشير ، بدلا من الانحياز للخيار المدني الذي يعبر عنه الشباب و الشارع . كما تتفرع عنه قضية الديمقراطية داخل “الحزب”، وهي الخدعة الكبرى التي سوقها دهاقنته.
فقد اتضح ان هذه الديمقراطية الداخلية لم تكن حقيقية في يوم من الأيام، وانها كانت ديمقراطية شكلية اجرائية مثل ديمقراطية الصادق المهدي والحزب الشيوعي ، اكثر منها ديمقراطية فعلية. وقد انتهى الامر بهذه الديمقراطية الشكلية الى مذابح تنظيمية و مؤامرات وشللية سافرة، كما هو الحال اليوم في ذلك “الحزب”.
خاتمة:
يقول الفيتوري في بيت شعري شهير في قصيدة ياقوت العرش ان ( الغافل من ظنّ الأشياء هي الأشياء!) . كما يقول الدكتور بشار صقر في احدى كتاباته:( المهم هو تعرية الخطاب، أي خطاب، لحظة الانكشاف، وان تكون التعرية مسنودة بالتفكيك الواعي للخطاب نفسه، لأن الخطاب ، أي خطاب، ليس سوى “حقائق واكاذيب”) .
لقد آن الأوان لتعرية خطاب الشمولية والسلطوية في طرح المؤتمر السوداني، وأزف الزمن لفرز الحقائق عن الاكاذيب، ولانكشاف ممثل الاسلاموعروبية الجديد هذا في السودان ، ودقت الساعة لأن يتم ليس فقط التفكيك الدقيق للخطاب المخادع، وانما ايضا كشف جذوره الفكرية والاجتماعية ، وتجلياته في الممارسة العملية ، و ضرره تجاه قضايا الاصلاح والتغيير الاجتماعي في السودان.
يتبع.
عادل عبد العاطي
6 مارس 2023م
اشارات مرجعية :
*ازمة الشرعية في الحركة السياسية السودانية
https://www.mafhoum.com/press/Ati.htm
**حزب المؤتمر السوداني في الميزان
http://abdelaati.org/pl_PL/archives/455
*** عن المؤتمر السوداني سأتحدث آخيرا
https://facebook.com/story.php?story_fbid=6146921155356690&id=100001165992595
****في تحليل النظام القحتري : سوق النخاسة السياسي واقتصاد الازمة في السودان
https://facebook.com/story.php?story_fbid=2465787450136764&id=100001165992595
التعليقات مغلقة.