الايام نيوز
الايام نيوز

صراع الموارد وخلفيات الصراع محاولة لمخاطبة جذور المؤامرة (٢-٢)على عسكوري

صراع الموارد وخلفيات الصراع
محاولة لمخاطبة جذور المؤامرة (٢-٢)
على عسكوري
٢٣ مايو ٢٠٢٣

طرحنا في نهاية المقال الاول سؤالا حول ماذا عسانا ان نفعل لوقف مؤامرات العالم على بلادنا، وذكرنا ان في بلادنا موارد تغرى الامبريالية والطامعين للتآمر عليها، وقلنا ان حميدتى ومرتزقته ورهطه من نشطاء ما عرف بالمجلس المركزى للحرية والتغيير لم يكونوا سوى اداة للاخضاع وواجهة لقوى ذات نفوذ لتمرر سياساتها من خلالهم. وذكرنا ان حمية الامبريالية لغزو الشعوب بالجيوش الجرارة ضعفت نتيجة لتكلفتها البشرية والمالية و استنبطت بدلا عن ذلك طريقة جديدة للسيطرة ولتحقيق مراميها من خلال الاستفادة من عمالة بعض ابناء الشعوب المستهدفة واستخدامهم كواجهة تحت دعاوى الديمقراطية و حقوق الانسان ومشاركة المراءة وقضايا الجندر وما الى ذلك من قول الحق الذى يراد به الباطل.
من خلال النظر في تاريخ البشرية والامبراطوريات التى سيطرت ثم اندثرت كحقائق تاريخية معلومة، يمكن ملاحظة ان القاسم المشترك لازدهار تلك الامبروطوريات هو اخضاعها لشعوب ومجتمعات اخرى والاستفادة من مواردها. هذه الحقيقة ليست حكرا على الحضارة الغربية المسيطرة حاليا، بل هى ممارسة سبقتها اليها امم وحضارات سادت ثم اندثرت. سادت واستمرت بقدر توسعها وسيطرتها على الشعوب الاخرى، واندثرت عندما قاومتها تلك الشعوب وخرجت عن سيطرتها وحرمتها من امداد الموارد، لا يستثنى من ذلك الامبراطوريات الاسلامية، وفي ذلك ينسب لهارون الرشيد قوله لسحابة: ” اينما صببتى سيأتيني خراجك”.

ما يواجهه السودان حاليا هو تنافس على الموارد بين القوى النافذة عالميا، إما تلك التى تعمل على استمرار سيطرتها وهيمنتها على العالم او تلك البازغة التى تسعى بدورها لمنافسة القوى المهيمنة. هذا تنافس وصراع قد لا يكون للسودان تاثيرا عليه، ولكن يقتضى على السودان وبالنظر لما لديه من موارد (موضعة) نفسه في هذا التنافس.

عندما اتحدث عن الموارد في هذا المقال اعنى تحديدا الموارد الزراعية المروية والمطرية منها، وسأترك الموارد الاخرى حتى لا يتشعب المقال وتكثر التفاصيل، اذ اننى اناقش اسباب المؤامرة وليس تفاصيل الموارد الموجودة بالسودان.

بلغت الحضارة الغربية اوجها بعد ثورة الاتصالات والحوسبة التى بدأت منتصف ثمانينات القرن الماضى وتطورت بسرعة لتصل مداها بحلول العقد الاول من القرن الواحد وعشرين. اعادت ثورة الاتصالات الالق والتفوق للحضارة الغربية التى كان نجمها قد بدأ في الافول بعد انتهاء الحرب الباردة مع روسيا. وهكذا امدت ثورة الاتصالات التى خرجت من غياهب المخابرات وو كالات التجسس الحضارة الغربية بدماء جديدة للحياة، لكنها سرعان ما وصلت مداها واصبحت ريادة الغرب للعالم محل شك من جديد وبدأت ملامح الشيخوخة والكساد تلوح في الافق وما يلي ذلك من بطالة ومشاكل اجتماعية وازمات معيشية ستتحول بعد تراكمها الى مشكلات داخلية تهدد الاستقرار في تلك المجتمعات. ومما زاد الطين بلة و في خضم هذه الازمة جاءت الضربة الثانية من روسيا بالحرب في اوكرانيا احد اكبر المنتجين للغذاء في العالم.
وكما يعلم اى دارس للاقتصاد، فإن استمرارية الازدهار تقتضي القدرة على تدوير رأس المال او اعادة استثماره لخلق الفرص في الاقتصاد… ما يواجهه الغرب الان هو ضمور وتقلص فرص تدوير رؤوس الاموال المتراكمة في بنوكه، ومع بلوغ ثورة الاتصالات الى مداها قلت فرص تدوير رؤوس الاموال داخليا، وعليه يجب البحث عن مناطق اخرى لتدوير الاموال.

افريقيا هى مناطق النفوذ التقليدية لاوروبا منذ الحقبة الاستعمارية (فرنسا، انجلترا، واخيرا الولايات المتحدة)، ولا تزال افريقيا اكبر مصدر للمنتجات الاولية او الخام وهو امر مقصود، ومن نافلة القول لو دخلت افريقيا التصنيع لكسدت الكثير من الصناعات في اوروبا ولذلك تقوم استراتيجية الامبريالية على ابقاء افريقيا كمخزن للمواد الخام زراعية او معادن. على هذا الاساس تتم صياغة شروط تمويل المشروعات، فالبنوك الممولة تمول المشروعات التى يحتاجون منتجاتها لا تلك التى تحتاجها المجتمعات الافريقية. بمعنى اخر فالتمويل يتم على اساس خدمة اولوياتهم او اقتصاداتهم وليس اولويات الدول التى تقترض الاموال. هذه هى فلسفة تمويل المشروعات التنموية التى تدار كليا من قبل وبشروط الممول وبأولوياته. لقد عملت لعقود طويلة في مجال تمويل المشروعات في السودان وخارجه واتاحت لى التجربة النظر لقضية التمويل من الزاويتين، زاوية الممول وزاوية متلقي التمويل. بمعنى اخر ان اقتصاديات العالم الخارجي تحدد اولويات المشروعات التى يمكن تمويلها ومتى وبأى شروط، وليس كما يفهم البعض من نظريات دراسات الجدوى وعوائد المشروع الخ مما يدرس للطلاب في قاعات الدرس، بالطبع كل هذا جيد ولكنه ليس الاساس ولا شرط صحة او قبول التمويل.
هذه الخلفية مهمة لفهم المؤامرة التى تدور في بلادنا حاليا.

لن نضيع وقت القارىء في الحديث عن مواردنا الزراعية، فهى معلومة، وما نود التركيز عليه ثلاثة قضايا استرتيجية تتعلق بعلاقتنا مع العالم قادت في نهاية المطاف الى ما نحن فيه من كارثة.
١) قصر نظرنا وفهمنا لما لدينا من موارد واهميتها للعالم والبشرية. فنحن نجلس على امكانيات زراعية هائلة ولكننا فشلنا منذ الاستقلال في استغلالها ونسينا ان البشرية تحتاج لتلك الموارد لاطعام الكثير من الشعوب ولخلق الفرص في اقتصادياتها. ظللنا نتشاجر في (الشىء واللاشىء)، و- (اللاشىء هو اللاشىء) كما قال عرمان – نسينا ان العالم لن يتنظرنا الى ما لا نهاية لنحسم قضية الجدل البيزنطى في الدولة الدينية والعلمانية وما الى ذلك من الجدل العقيم، من صراع الى صراع ومن حرب الى حرب الخ، وما نكاد نخرج من حرب الا ندخل اخرى، نفعل ذلك ونتسول قوتنا من العالم رغم ان الانهار تجري من تحتنا. وبدلا من ان نساهم في حل مشكلة الغذاء في العالم اصبحنا عبئا عليه نستهلك اكثر بكثير مما ننتج.

٢) منذ الاستقلال ظلت سياستنا الخارجية مرتبكة بلا رؤية واضحة، نقول للغرب نحن معه وحلفاؤه، ولكننا فى ذات الوقت نغازل الصين وروسيا سرا وعلانية، حتى اصبح حالنا مثل اهل الاعراف، لا مع هؤلاء ولا مع اولئك نقف في منزلة بين المنزلتين.
قادت هذه الاخطاء الاستراتيجية الى ان اصبحنا بلا اصدقاء نعتمد عليهم عند الشدائد والنائبات.
موقف الغرب من عدم ادانة استباحة المليشيا للخرطوم يكشف طبيعة علاقته معنا ونظرته الينا.
الحكومات تبحث عن اطعام شعوبها ونحن غارقين في الجدل البيزنطى العقيم نتسول قوتنا ونتشاجر، وقد طال شجارنا حتى سئمه العالم.

٣) أكثر من ذلك افترعنا شىء اسمه الدولة الدينية وتطبيق الشريعة وما الى ذلك، دون توفر القدرات الذاتية لتحقيق ذلك، فخسرنا بذلك المعسكرين الدوليين، واصبحنا وحيدين منبوذين لا صليح لنا. ومن واقع التجربة أضرت الدولة الدينية ايما ضرر بعلاقاتنا مع العالم، ومارس العالم علينا عزلة مهلكة والحقنا بالدول المارقة الخ… كل ذلك والبعض لا يزال يعتقد ان بإمكانه اقامة الخلافة الراشدة في ارض النيلين كما اشار لذلك الاستاذ المحبوب عبد السلام في احد لقاءاته… مضت اربعة عقود على الدولة الدينية… فلا طبقنا شريعة ولا اقمنا دولة دينية، بل خسرنا العالم..! وكأننا لا نتعظ ولا نعتبر حتى وان اوردنا شعبنا وبلادنا المهالك…نسينا قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا الا وسعها)، حملنا (بتشديد الميم) شعبنا فوق طاقته دون طائل، وها هو قد تفرق في الارض لاجئين بين الشعوب، الا نعتبر من نتائج التشدد ام انه حماقة وركوب رأس لا طائل منه وان كانت نتائجه الخراب! وكنت اعتقد ان الصحيح لمن يريد اقامة دولة دينية في السودان يبدأ اولا باغلاق البلاد على نفسها واعتزال العالم تماما. اما الاعتقاد بأنه من الممكن اقامة دولة دينية بالشروط التى يراها وفرضها على العالم وحمل العالم للقبول بها فذلك هو الشطط بعينه. ففى غابة البشرية هذه التى تسمي بالكرة الارضية، ذئاب واسود لها انياب ومخالب تفترس بها كل من يحاول تهديد سطوتها وسيطرتها، وما يحدث لمجتمعنا ودولتنا الأن ما هو الا بوادر ذلك الافتراس.

نخلص من كل هذا الى ان العالم يحتاج الى ما لدينا من موارد وقد جاء وقت استغلالها، فإن وفرنا شروط استغلالها والتعايش مع العالم استقرت بلادنا وتوقفت المؤامرات اما ان استمرينا في (ركوب) رأسنا واعتقد بعضنا بأنه شعب الله المختار الذى سيأتى بما لم تأت به الاوائل، فالعالم قادر على استيلاد (حميدات) أخر – وما اكثرهم – لتسليطهم علينا لتشتيت ما تبقي من مجتمعنا في الارض.
ان هذه الكارثة التى ضربت بها دولتنا ومجتمعنا يجب ان تحملنا على التفكير في القضايا الاستراتيجية التى اشرنا اليه اعلاه. فدون تحديد توجهاتنا وعلاقاتنا الدولية لن تستقر بلادنا ولن يكون لنا حلفاء. والامر الثانى هو ان جلوسنا على كم هائل من الموارد دون ان نستفيد منها او يستفيد منها العالم أمر يحرك المتآمرين لاستهدافنا، وعلينا البحث عن طريقة وآليات لجلب الاستثمار لبلادنا لمصلحة شعبنا ومصلحة البشرية. ولن تأت اى استثمارات اذا تمسكنا بالتطرف الديني ومحاولة اختراع العجلة والزعم ان بإمكاننا اعادة الخلافة الراشدة، ولنا في تركيا ومصر والمغرب وغيرهم اسوة، ودرء الضرر مقدم على جلب المنافع، وهنالك الآن مخاطر حقيقية ومخاوف تنذر باندثار مجتمعنا نفسه. ولذلك قبل ان نتحدث عن تطبيق شريعة او علمانية يتوجب علينا حماية وجود المجتمع من التفكك والاندثار ولن يتأت ذلك الا بتقديم التنازلات ليتستعيد المجتمع حياته وتماسكه من جديد.
ان لم ننتبه ستذهب ريحنا وستذهب بلادنا، وعندها لن يجد اصحاب العلمانية او الدولة الدينية قرية نائية ليتشاجروا فيها ويمارسون جدلهم البيزنطى والناس قد رحلوا.

التعليقات مغلقة.