الايام نيوز
الايام نيوز

كتب د. أسامة الأشقرمحاولة لفهم خلفيات الصراع العسكريّ في السودان وزواياه•

*كتب د. أسامة الأشقر**محاولة لفهم خلفيات الصراع العسكريّ في السودان وزواياه*•

في مواسم الأزمات والحروب تشتعل الإشاعة، وتتحول بفعل قوة التعبئة الإعلامية وضخامة مؤسساتها وسطوة انتشارها إلى أداة حرب عنيفة تستهدف معنويات الخصم وقوام ثباته ومواضع قوته، فتصيبه بالإرباك أو الحيرة أو التردد، وتدفعه إلى عدم الثقة بمبادئه أو قدراته أو قيادته فيخر خاضعاً مستسلماً أو يفرّ.• وقد يبدو لأول وهلة أن هناك طرفين في الحرب الدائرة في السودان : القوات المسلحة بما فيها من جيش وأمن وشرطة، وقوات الدعم السريع، لكن وراء ذلك في حقيقة الأمر جماهير تحتضن مبادئ أفكار مشتتة أعيتْها تجارب السياسة ودساتيرها المتقلّبة؛ وفي واقع الحال فإن الجيش يمثل اليوم آخر مؤسسات الدولة السودانية بعد انهيار السلطة، إذ لا توجد مؤسسة رئاسة ولا رئاسة وزراء ولا برلمان ولا محكمة دستورية… وبهذا الوصف بات هذا الجيش يمثل وحدة السودان لكونه حارس الوطن والحدود، والقيّم على أمنه؛ ووراء هذا التمثيل جماهير تبحث عن معنى الوطن الآمن المستقر القادر على البقاء؛ وأما الدعم السريع فهو في أساسه كان أداة من أدوات الأمن والاستقرار في بقعة تشهد حرباً أهلية، ثم تحول إلى قوة تنافسية لها سياقها الخاص وعلاقاتها المستقلة ومواردها الذاتية وحضورها المختلف وتحالفاتها العابرة للحدود، ووراء ذلك كله قوى لها أغراض في إعادة تشكيل السودان ورسم سياق مختلف عن تقاليده المؤسِّسة، وتحظى برغبة دولية في تفكيك مؤسسة الجيش الجامعة، والاستعاضة عنها بجيش جديد قوامه الدعم السريع وتشكيلات من القوى المسلحة التي حاربت الدولة في العقود الماضية ولا تريد أيّ تواصل مع مكوناتها القائمة.• الإشكال الأعمق كان أن السودان بعد انهيار نظام الرئيس السابق عمر البشير في ضربة مزدوجة من حراك شعبيّ ومساندة قوة الدولة الوطنية الخشنة لم يستطع تشكيل مسار سياسي توافقيّ بين أطرافه التي كوّنت مرحلة الثورة، وتعرض السودان خلال السنوات الثلاثة لأكبر عمليات التجريف الخارجيّ الذي اجتاح كل المربعات السودانية، واستباح كل مقومات السيادة فيه، مع تردٍّ هائل في الخدمات، وتراجُع شديد في الإنتاج، وتوقف شبه كامل لعجلة التقدم، وأزمة اقتصادية خانقة ضربت أطنابها على المجتمع كلّه فأغرقته في أزمات صحية وتعليمية وأمنية واجتماعية لا تنتهي … .• وفي مثل هذه الظروف تبرز القوى المنافسة، وتصطفّ، وتملأ الفراغات، وتظهر مجموعات مسلحة كثيرة، وجيوش كبيرة وصغيرة، تحمل برامج ورؤى وأفكاراً مختلفة ومتناقضة، وتسير من ورائها أحزاب وطوائف وعصبيات وجهويات وأعراق وقبائل… أو تتقدمها أو تُطيف بها؛ ثم تحالفَ القريبُ منها مع بعضه وتوالَى، وتفارَقَ الأباعدُ، كلٌّ في عَدْوته، بينما حُظرت فئات عريضة في الدولة العميقة عن التأثير والمشاركة في ترتيبات القيامة الجديدة عقوبةً لها على تجربتها في الحكم، فكانت تجتهد هذه الفئات القوية النفوذ في استعادة حضورها والدفاع عن نفسها بعد نضوج مراجعاتها والاستدراك المحدود على أخطائها ونواقصها.• هذه الجيوش تحولت من المشاركة إلى المنافسة، وفي أجواء المنافسة المحتدِمة استُدعِيت كل أدوات القوة الذاتية الداخلية منها والخارجية، وتغيرت اتجاهات المنافسة إلى ميادين استعراض القوة، وإثبات النفوذ، وفرض الرأي، والتحكّم في القرار إمضاءً أو تعطيلاً… فلم يعد ثَمّة رأسٌ ولا مرجعيّة ولا هيبة لأي سلطة، وتمكّن الخوفُ كما تمكنت الرغبةُ، وسارت الدولة في رهَقٍ بين المتنازعين الراغبين والخائفين، حتى انجلى الغبار عن ميدان يجب فيه على طرف أن يثبت قدرته على البقاء أو ينتهي، إذ لا مجال لرأسين في قيادة الأمر آخر المطاف.• كانت المرونة والخفة والسرعة والقدرات والعدد والإمداد، والإشارات الوامضة الخضراء، والانتشار الواسع، وكثرة الخاطبين لودها في السرّ تخدم قوات الدعم السريع التي أثبتت قوة نفوذها في الشأن السياسي السوداني وفاعليّة تأثيرها في القرار بفضل فائق القوة والمدد لديها؛ بينما كانت القوات المسلحة العريقة في تقاليدها ترْسف في اتهامات التردد والثقل والبطء والمسؤولية عن تردّي الأوضاع رغم كل القوة التقليدية التي تتمتع بها، ورغم امتيازها بتمثيل الوطن وحراسة قيمه.• في اللحظة الفارقة التي توقّعها كل ناظر في تجارب الصراع المجتمعيّ الإنساني فقد تحددت ساعة الصفر برفع الحواجز الاعتبارية في أصول المعاملات وتقاطعات المصالح، واستدار مستوى المنافسة إلى مستوى التهديد والمباشَرة بذلك، فلم تقبل القيادة المتنفذة في الدعم السريع ومن يتبنّاها بالاندماج المتفق عليه في الاتفاق الإطاري إلا وفق شروطها وبقاء مواردها واستمرار مزاياها ومقترَح المدى الزمني لإنجاز دمجها في القوات المسلحة التي باتت تتبع لها اسميّاً وقانونياً، وبات التخوّف لدى القوات المسلحة حقيقةً بأن وراء الدعم مشروعاً يستهدف تفكيك هذا الجيش وتمزيق الوطن إلى أقاليم، وأن هذا المجتمع الدوليّ الذي يحمل في يده قرار مجلس الأمن بولايته على السودان وفرض السلام تحت البند السادس بطلب من رئيس وزرائه المستقيل عبد الله حمدوك لا يرى مانعاً في تكرار مشهد تفكيك العراق واليمن وليبيا وسوريا لاسيما أن المبعوث الدولي للسودان الألماني الجنسية فولكر بيرتز ممن شارك في تجارب التفكيك بحق هذه الدول بدافع تمكين الديمقراطية ونشر قيم التسامح والسلام والمساواة وفق المُعلَن من أهدافه.• كانت القوات المسلحة تغلي من داخلها وهي ترى عجزها عن حماية الوطن وإنقاذه، وترى قوات متنافسة تأخذ مكانها، وهي قوات تمثّل عائلة أو شريحة مجتمعية أو ظرفاً تاريخياً خاصاً لا يمكن تأسيس فكرة وطنية جامعة عليه حتى إن أعلنت في آخر إعلاناتها السياسية أنها حارسة الثورة الشعبية والمدافِعة عن شعاراتها (حرية وسلام وعدالة) والمسؤولة عن سلامة الثوار بعد أن اتهمتهم قوى الثورة الأولى بفضّ اعتصامها والتآمر عليها؛ فكان القرار العسكريّ بالمبادرة إلى ما تأخّر حسمُه حتى استطال وتمكّن، وكانت الشرارات تشتعل وحدها بانتشارات وارتكازات عسكرية للدعم السريع على امتداد السودان دون تنسيق، وبات الدعم السريع نفسه يشعر أنه مُهدَّد بنموّ الشعور بالتهديد لدى القوات المسلحة، وكان يستعجل الحسم كما تستعجله القوات المسلحة.• ومنذ اليوم الأول لاشتعال الأحداث في السودان فقد بات واضحاً أن مستوى الخبرة والتخطيط والقيادة الجماعية قد تغلّبت على مستوى المناورة والسرعة والخفة والمرونة، وأن القوات المسلحة استعادت زمام المبادرة في واحدة من أقسى العمليات الجراحية التي مرّ بها السودان، وأن الطريق قد انفتح على أفق جديد، فإما أن يتجه صوب تجرّع المرار السياسي السابق نفسه بالطريقة نفسها، أو شقّ طريق جديد بصفحة جديدة تبدأ فيها مسارات جديدة يحدد فيها الشعب خياراته عبر انتخابات نزيهة شفافة لا تستبعد أي اتجاه سياسيّ وطنيّ، ولا تستأثر فيها جهات بالسلطة وتحتكرها باسم الوطن الجريح.

التعليقات مغلقة.