دولة القانون
متى تتوقف الحرب [2]
ادعاء حميدتي بأن تحركه العسكري الكاسح رد على مقتل ستين من قواته رواية لا تبرر له بأن يعلن الحرب الشاملة، ومنفرداً. فحميدتي كانت قواته تمارس القبض والاعتقال فيةحراسات خارج النظام العدلي. أي أن حميدتي بوصفه نائباً لرئيس مجلس السيادة كان بوسعه أن يقبض ويحقق ثم يقدم للمحاكمة كل من تورط في هذه الفتنة. ولأن هذا الاجتياح كان مدبر له بليل، فالتكييف القانوني لتصرف حميدتي ليس إلا انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة. فمن أوعزوا لحميدتي بالانقلاب كانت تنقصهم خبرة الخطة البديلة إذ بفشلها لا يكون حميدتي أول المنتحرين. فظاهرياً، وإن كانت محاولة حميدتي قد تدسرت بشماعة التحول الديمقراطي وتصفية الفلول إلا أن ما تكشفت من وقائع أجلت أن الهدف من التحرك اغتيال البرهان وأعضاء بقية المكون العسكري أو على الأقل القبض عليهم متى تعذر تصفيتهم. فشل هذه الخطة لم يترك لحميدتي من بد غير أن يعلنها حرباً شاملة عليه وعلى أعدائه وحتى أصدقائه سيما وأنه كان معبأ بصورة سفيانية صورته الأكثر جاهزية واستعداداً للسيطرة على الخرطوم.
صحيح أن حميدتي نجح تماماً في مفاجأة الجيش باسطاً السيطرة الكاملة على أكثر من تسعين بالمائة من ساحة المعركة. الخطأ الجوهري بخلاف انعدام الخطة (ب) يكشف أن حميدتي لم يتحسّب للأخطاء التالية: الخطأ الأول: أن ضباط الجيش السوداني وجنوده مهما اختلفوا مع البرهان كقائد إلا أنهم لم ولن يقبلوا به وجنوده على رأسهم. الخطأ الثاني : افتقار الدعم السريع لسلاح الطيران كان يستوجب أن يبسط حميدتي سيطرته على سلاح الطيران أو على الأقل يعطل حركته. الخطأ الثالث: التحرك الميداني الواسع أو بسط السيطرة على الخرطوم تجاوز حدود الانقلابات العادية وما تقتضيه من تقليل للخسائر بتقديم قيادة جديدة للجيش. التمدد غير المدروس وما صاحبته من وحشية قوات حميدتي أفضت لترويع المواطنين كما أنها وذكّرتهم بالخطابات النارية التي سبق وأن توعد فيها حميدتي بخراب العاصمة وتدميرها.
مهما يكن من شأن، فالثابت أن هذه الحرب وقعت في ظل فترة استثنائية انتقالية. هذه الفترة، وبوصفها حالة استثنائية، فهي بطبعها هشة وكثيرة التقاطع في المصالح المحلية والأجنبية. في ظل حالة الاستثناء هذه، يجوز القول بأن الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر المجيدة تصنّف الأكثر تعقيداً من أي انتقال آخر. خصوصية الحالة السودانية تكمن في أن الثورة نجحت بعد مخاض عصيب واضعةً حداً لحكم دكتاتوري امتد لثلاثين عاماً. فالنظام البائد لم يكن دكتاتورياً وحسب وإنما كان عقائدياً متغلغلاً بكل مفاصل الدولة. تجاوز هذا الواقع تطلب تجرداً استثنائياً بحيث يُرشّح ويختار من صنعوا الثورة قيادة على قدر قامتها وتحدياتها المعلومة والتي لا تحتمل المغامرة أو إتاحة الفرصة لعدو جاهز متربص. المجمع عليه أن أعظم ابتلاء كان وما زال يواجه الثورة اختطافها ممن فرضوا أنفسهم قيادة لها من المدنيين. فالمختطفون، وبكل جرأة، لم يخفوا طمعهم في أن يفاوضوا ليتقلدوا المناصب الرسمية سواء على مستوى السيادة أو الوزارة التنفيذية أو حكام الأقاليم أو غيرها من السلطات. طمع القيادة المدنية في السلطة كان نقطة الضعف لأن تصبح السلطة صفقة بينهم ومؤسسة عسكرية كانت وما زالت طامحة ومتمسكة بالسلطة. ببساطة، لو أن من فاوض العسكر من المدنيين تجرد واشترط خروج كل المفاوضين، سواء من المدنيين أو العسكريين، من المشهد لعبرت ثورتنا.
حالة الاختطاف والتنازع على السلطة سواء بين مكونات القوى المدنية أو حتى العسكرية مثلّت العلامة الفارقة للفترة الانتقالية. على ذات النمط تم إجراء التعديل الباطل على الوثيقة الدستورية تحت ذريعتين، الذريعة الأولى: محاولة تجاوز شرط عدم الانتماء الحزبي بأي طريقة لتقلد المناصب الوزارية وبالتالي السماح للحزبيين للتكالب عليها. الذريعة الثانية: سمو بنود اتفاق جوبا على الوثيقة الدستورية وبالمرة السماح لأطرافه ليكونوا جزءاً من السلطات السيادية والتنفيذية والتشريعية. غياب الأفق السياسي وعدم المشروعية الدستورية أفضيا ليؤدي التعديل لمزيد من المحاصصة الحزبية والجهوية. هذا الواقع، وبصورة مباشرة، ألهب شرارة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021. اتفاق جوبا وبدلاً من تغذية السلام كان الفتيل المؤجج لصراعات كشفت عجز رئيس الحكومة وتنازله لحميدتي عن أهم الملفات كالاقتصاد والسلام انتهاءً بالاستقالة. رغبة البرهان في أن يحتفظ لنفسه بالسلطة جعلته يمضي في خلق المزيد من التناقضات التي أضعفت الجيش من جانب وتقوية للدعم السريع من الجانب الآخر. خلال الفترة الانتقالية الهشة زادت سطوة حميدتي وتضخمت ثروة بصورة ملحوظة ليصبح دولة موازية للدولة. في ضوء الضعف الذي لازم حكومة الثورة تهيأت البيئة لأي سيناريوهات بما فيها هذه الحرب التي لن تتوقف ما لم يزل سببها الرئيس وهو عدم التوافق على الحد الأدنى من الثوابت الوطنية، ونواصل .
د. عبد العظيم حسن
المحامي الخرطوم
15 مايو 2023
التعليقات مغلقة.