عادوا وهم يبحثون عن ملامح أتبرا
عادوا إليها ولكني لم أكن بينهم
عادوا بعد عشرات السنين ، ولكنها عودة غريبة ، كأنها أشبه بلوحة سيريالية بعيدة عن المنطق معبرة عن حالة لا شعورية عجيبة ،
لست بينهم ، ولكني أكاد أراهم وهم يمشون في شوارع السوق الكبير يبحثون عن ملامحه القديمه كأنهم يبحثون عن عزيز مفقود ، يبحثون عن المقاهي القديمة ، ويتفرسون في الوجوه لعل عيونهم تقع على وجه العم محمد أحمد القراي ، أو العم إبراهيم باشري أو العم شمت
أو من بقى من أولاد ود البيه أو الجدي .
ثم تجول أعينهم في المكان ، لعل كراسي خيزرانها القديم ما زالت فيه بقايا في المكان
فلا يجدون من الملامح إلا ما ظل عالقاً على حواف الذاكرة
أراهم تسوقهم أقدامهم ، والتي تاهت فلا تكاد تعرف المكان وهي تمشي مثقلة تبحث عن التعازي في مدينة فارقوها لعقود
كانت تحيتهم فيها سلام
وودعتهم بسلام ،
والدموع تملأ عينيها كأنها كانت تطلب منهم البقاء
وعندما رجعوا إليها ، رجعوا وهم يحملون إليها آلام الحرب وأنفاس المواجع
عندما أتوها وجدوها بملامح أخري وقلب آخر
أراهم في شوارع ( المربعات) و (حي أمبكول) و (الداخلة)و (حلة جدعو) يتلفتون بقلوبهم وعيونهم يبحثون عن المكان ، يبحثون عن شئ ما ، وكأني بهم يتحسسون الجدران بأياديهم لعلها تعرفهم أو يعرفونها ، وقد إلتصقت أجسادهم بالجدار كما يلتصق الطفل المفطوم توا بجسد أمه
رأيتهم عند شاطئ الأتبراوي ، وهم جالسون على صخره التليد يبحون بين أمواجه الهادرة عن ذكرى قديمة ، وقد أنحنت أشجار الدوم التي كانت يوماً ما باسقة ، قد تدلت سعفاتها على موج النهر كأنها تودعه وداعها الآخير
رأيتهم على شاطئ النيل كأنهم يسألونه ما حل بالخرطوم ، والنيل صامت لا يجيب على شئ
رأيتهم وهم يخترقون بخطواتهم الورش القديمة وهي ساكنة إلا من طرقات متفرقة كأنها تقول لهم أنا هنا
رأيتهم على رصيف المحطة وهي خالية إلا من أصوات العصافير التي بنت أعشاشها على أسطح المارسيليا
رأيتهم هنا وهناك عند أطلال السينما الجمهورية والوطنية ، يسألونها عن العم جون أسكندر والعم عبد الحفيظ حجازي
والاطلال لا تجيب على شئ ولكنها تبتسم
أين ذهب الحارث ؟
لعلهم يجدونه في طرف ما من أطراف هذه المدينة ، التي أخفت عنهم كل هؤلاء ، كأنها تخفي كنوزها القديمة
ولكأني اسمعهم يتساءلون أين نحن ؟
ولا أزال وأنا هنا أستمع إلي صوت أقدامهم هناك
ولكنه في كل مرة يكون أكثر خفوتا وذبولا
والشمس قد تدلت و دنت على رؤوسهم ، فصارت قاب قوسين أو أدنى
وهم يتخافتون بينهم ماذا يحدث ؟
علي خليفه حسن صالح
التعليقات مغلقة.