الايام نيوز
الايام نيوز

الجنجويد.. التمكين عبر إختراق الأمن القومي السوداني (١- ٣) اللواء ركن متقاعد عثمان اسماعيل سراج


الجنجويد.. التمكين عبر إختراق الأمن القومي السوداني
(١- ٣)

اللواء ركن متقاعد عثمان اسماعيل سراج

كل قرين بمقارنه يقتدي ، كثرت الأوصاف من قبل الإعلاميين و الكتاب التي أطلقت علي مليشيات (الجنجويد) منذ تمردها و هجومها المدبر على الجيش السوداني في ١٥ أبريل٢٠٢٣م. و أكثر هذه الأوصاف إثارة هو تتار أفريقيا، فوجه الشبه بينهما هو الفظائع المرتكبة من قبلهما في حق الضحايا الأبرياء لسلوكهما و طبائعهما الوحشية في حق الآدمية و إن اختلفت الأزمنة و الأمكنة (بغداد و الخرطوم). فخير من وصف مليشيا ( الجنجويد) بالنعوت التي تستحقها هو الكاتب و الروائي العالمي السوداني عبد العزيز بركة ساكن حين قال إنهم (يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة شعورهم كثة تفوح منها رائحة الصحراء و التشرد ، على أكتافهم بنادق تطلق النار لأتفه الأسباب وليس لديهم حرمة للروح الإنسانية، لايفرقون ما بين الإنسان و المخلوقات الاخرى). وقد شاهدتم هذه المخلوقات بهذا الوصف عياناً بياناً.
التتار بدو وسلوكهم وحشي وحين اجتاحوا آسيا من قرون خلت َ، خلدوا تأريخا سيئاً حتى صاروا ثيرموميترا لقياس السوء لم يفوقهم إلا تتار أفريقيا (الجنجويد) بقيادة دقلو (هولاكو أفريقيا) فظاعة و خرابا و دمارا، فأفعالهم و جرائمهم اليومية شاهدة من خلال وقائع المعارك الدائرة في حرب الكرامة. و أدل دليل على ما ذهب إليه عبد العزيز بركة، هو إفتراس هؤلاء لضحاياهم الأبرياء بلا رحمة، فمن يشاهد أفلام قناة (ناشيونال جيوغرافيك) يرى كيف تفترس الكلاب البرية فريستها بشكل فوضوي، فهي تلتهمها حية واقفة وتقطعها إربا إربا، دون مراعاة لقدسية الروح (تؤكل قبل خروج الروح)، لا كما تفعل الأسود فإنها لا تأكل فرائسها حتى تتيقن من خروج الروح، فهذا شرف وذاك خسة و دناءة. و ما مقتل والي غرب دارفور الموثق من قبلهم ببعيد.
بحكم انني من سكان دارفور عشت واقع و سلوك هذه المليشيا فهم مصدر إزعاج و مهدد لأمن المواطن البسيط في داره و مزرعته وفي حله و ترحاله، بقطع الطرق وممارسة القتل والنهب و السلب، دون أن تلقى بالا للعقاب المنتظر و المعدوم أصلا. وقد جذب إنتباهي قول أحد المحاضرين في الاكاديمية العسكرية العليا عندما كنت دارسا لنيل زمالة العسكرية العليا، هذه الزمالة هي أرفع درجة علمية لتأهيل العسكريين وكبار موظفي الخدمة المدنية لإدارة الدولة ، ألقى محاضرنا وهو من العسكريين السابقين، حاصل على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية، محاضرته عن جمهورية تشاد، ضمن المحاضرات التي تخصص للدراسات الإقليمية تدرس فيها دول الجوار السوداني، بواسطة المختصين من الدبلوماسيين و السفراء و الملحقين العسكريين السابقين. أكثر ما آثار فضولي هو قوله إن (اكبر مهدد للأمن القومي السوداني هو الحدود التشادية)، و كان ذلك في العام ٢٠١٤م، هذا الفضول ناتج من علمي بهذا الشأن كأحد المتأثرين بتداعياتها على مدى خمسة عقود، على الرغم من أن الأدلة و البراهين تقول إن اثيوبيا قد تكون اكثر دولة يمكن ان تشكل تهديدا على سلامة الأمن القومي السوداني، للأطماع التوسعية لديها على حساب السودان فهو ضمن مداها الاستراتيجي.
تذكرت ذلك بعد تمرد مليشيا الجنجويد والذي أكد صحة ما ذهب إليه محاضرنا في محاضرته منذ تسع سنوات خلت ، وقد دلل استاذنا علي قوله بإن التداخل القبلي خلال الحدود أكثر فتكا من أي مهدد آخر بحكم عدم سيطرة الطرفين على الحدود لوجود الإمتداد القبلي بين معظم قبائل دارفور و قبائل دول الساحل و الصحراء و غرب إفريقيا، فهي أغلبها إثنيات مزدوجة، ويكون المتضرر الأول هو السودان و قبائل دارفور اليتيمة (فعلاً يتيمة) لقد راينا بأم أعيننا أسر تعود إلى اوطانها الأصلية أوطان الجدود، جارك يقول ليك باكر مسفر الاولاد للبلد ، وين؟ ام التيمان ، ادري، ابشي، انت و أولادك أكلوا قصدير لأن ما عندكم بلد غير السودان) التي لا يشملها هذا الامتداد ، من السهل لمنسوبي الاثنيات المزدوجة الحصول على الهوية السودانية بيسر اكثر من السوداني الأصيل فيمكن لأي نيجيري او تشادي عند قدومه السودان، ان يذهب إلى أقرب مجمع خدمات الجمهور مسترشدا بأحد أقاربه المقيمين فيصبح سودانيا بين ليلة َو ضحاها، فأمر الحصول على الهوية السودانية أهون من شرب الماء، و ادلل بذلك على سهولة امر السودان بأن ضابطا تشاديا كان زميل دراسة في الأكاديمية العسكرية العليا في ذاك العام منحنا اجازة اسبوعا بين فترتي دراسة ، عاد هذا الضابط مخضبا يديه بالحناء كعادة سودانية، ابديت إعجابي و أصابني الفضول أيضاً، فوجهت اليه سؤالا كيف استطاع الذهاب إلى تشاد و إكمال مراسم الزواج في هذه الفترة القصيرة؟ ابتسم الرجل وبلطف قال لي إنه تزوج من قريبته في الحارة (١٩) امبدة، وقفت مشدوهاً من أمره، فكيف لأجنبي ان يتزوج من سودانية بهذه السهولة دون المرور بإجراءات الخارجية و قنصلية بلاده. فهذا نموذج لهذه الازدواجية في الهوية ومضار ذلك على الأمن القومي للبلاد، علاوة على ذلك، فإن معظم حركات المعارضة التشادية التي استولت على السلطة في تشاد و التي فشلت كذلك تحركت من السودان وعلى أقل تقدير جل زعمائها كانوا يقطنون في امدرمان (أصيل احمد ، بن عمر ، دبي ، محمد نور). مردود هذه الحركات المعارضة كان خطيرا على الأمن القومي السوداني ، حملة محمد نور في عام ٢٠٠٦م انطلقت من السودان، و دخلت تشاد ولم تخرج بعد دحرها، أين ذهبت بعتادها العسكري الضخم؟ اعتقد جازماً ان نفس المعارضة هي التي عملت (عدو خلف) فهاجمت الخرطوم اليوم بعد فشلها في انجمينا، وليس غريباً ان تذهب كل الكنوز السودانية المنهوبة في السابق و الآن الي تشاد، و عبرها إلي غيرها من الدول الأفريقية، لعدم إمكانية السيطرة على الحدود من الجانبين. فهذا جزاؤنا جزاءا موفورا.
سلوكيات مليشيا (الجنجويد) قديمة عاشتها دارفور في ظل حكومات متعاقبة بدءاً بعمليات الاختطاف ثم القتل و النهب و السلب و قطع الطرق ثم تطور الأسلوب بنهب العربات ثم نهب القرى وحرقها و تهجير سكانها قسرا واحتلال الأراضي المهجورة، بشكل انتقائي وممنهج و هذه ثقافتهم الموروثة قدموا بها وطبقوها هنا، و هذا شأن الشعوب والأمم المنفية والمطرودة (driven out) لا تعرف غير العنف لأنهم أجلوا من بلدانهم وغيرها بالعنف وكذلك يمارسون العنف مع غيرهم لإجلائهم من اراضيهم و الضحية كانت إثنيات معينة و اغلبها من الاثنيات غير العربية والتي ليست لها امتداد خارج الحدود و التي عرفت من قبل الجنجويد (بالزرقة) معظمها او كلها كانت مستقرة، هذه الممارسات كانت تصاحبها عمليات قتل بشعة بقصد الترهيب و التضييق على هذه الاثنيات لترك الديار واحلالها بالمستجلبين من الجوار السوداني ، هذه المليشيات تمتاز بخفة الحركة و المرونة في تنفيذ عملياتها و الهروب عبر الحدود و الإفلات من الملاحقة و العقاب في السابق قبل أن تصبح سيدة الموقف في العقود الأخيرة.
لم تؤد الحكومات المتعاقبة واجبها للحد من نشاط هذه المليشيات ، أحيانا كانت عاجزة لضعف إمكانيات الأجهزة الامنية وخاصة الشرطة و أحيانا تغض الطرف عن هذه الأنشطة بدواعي انها صراعات قبلية، و مؤخرا بأسباب محاربة التمرد سمحت السلطات لهذه المليشيات بمزاولة انشطتها لتجفيف البيئة التي تنشط فيها الحركات المتمردة، فلاقي الامر هوي السلطات وهوي المليشيات و الخلاصة كانت هذا الدمار الشامل الذي رأيناه في دارفور ونراه الان في الخرطوم.
قصة الولاء و البراءة امر آخر ذو خطورة على الأمن القومي السوداني حيث أن بطون و افخاذ الوافدين الجدد خلال الحدود التشادية السودانية في السودان اغلبهم يدينون باللواء لبعض الاحزاب الكبيرة ولذلك تجد في فترة الديمقراطية الثالثة زيادة في نشاط وحركة دخول هذه العناصر الي السودان، وتبنت بعض الاحزاب هذا الاتجاه بغرض زيادة عضويتها فمارست هذه المليشيات عمليات القتل و النهب والحرق دون أن تتدخل السلطات لردعها في الاعوام (١٩٨٦، ١٩٨٧، ١٩٨٨م)، والتي عرفت حينها بحرب العرب على الفور، بموجب هذه الحرب كوفئت عناصر هذه المليشيات بالجنسية السودانية و بالتمكين و البحث عن الأرض.

استمرت المليشيات في تنفيذ خطتها الرامية الي الدخول إلى السودان و الاستيطان فيه باحتلال اراضي إثنيات محددة بعد تهجيرها، عبر هؤلاء الحدود الي السودان دون قيد بنفس مسميات قبائلهم القاطنة في السودان ، وجاءت حكومة الإنقاذ و التي بدأت في أولى سني حكمها إبراز عضلاتها للحد من نشاط هذه المليشيات وذلك بعمليات جمع السلاح في دارفور لكنها فشلت في جمع سلاح الجنجويد لعدم إمكان ملاحقتهم في البوادي و الفيافي و عبر الحدود. و افلحت في جمع سلاح من اطلق عليهم بالزرقة و هم الضحية من واقع الأحداث لسهولة السيطرة عليهم بإعتبارهم مقيمين ، واعتبر الزرقة الأمر بأنه قسمة ضيزي ، النتيجة تحفيز الجنجويد على تنفيذ الخطة بضراوة لخلو الساحة من المقاومة ، أما لدي الطرف الآخر فقد ولد هذا الأمر شعورا بالغبن وصنف الحكومة بالإنحياز الي الجنجويد لأنها قامت بجمع سلاح طرف و الذي يعتبر نفسه ضحية دون جمع سلاح من الطرف الآخر و هو المعتدي ، ولد هذا الغبن إضافة إلى زيادة نشاط المليشيات تمردا قاده أبناء من يعتبرون أنفسهم ضحايا، بزوغ هذا التمرد في الاعوام ١٩٩١م و ٢٠٠٣م دفع سلطات الإنقاذ الي استغلال الوافد الجديد بنظرية عدو عدوي صديقي ، هذا الاستغلال لهؤلاء الوحوش قاد الي كارثة بشرية راح ضحيتها مئات الالاف من الأنفس ولجوء و نزوح الملايين من سكان دارفور.

التعليقات مغلقة.