الايام نيوز
الايام نيوز

*مأساة أهل السودان

**مأساة أهل السودان*

أضحى واضحا فاضحا أن الفيدرالية الموسعة والانتخابات هي المفتاح الوحيد للخروج من المستنقع الآسن الذي وقع فيه السودان منذ الخمس سنوات الماضية.فلا مناص من خيار تطبيق هذا الترياق لفض الإشتباك ونزع فتيل المشاكسات بين الجيش القومي والدعم السريع، وإنهاء المنافسات التسلطية المكبوتة التي تفاقمت خلال حقبة اللامشروعية واللاديمقراطية، والتي ظلت تحت السطح، وكان مقدورا عليها فيما سبق. ولعل الأمر الآن يحتاج بإلحاح وطني لتطبيق الفيدرالية الإدارية الموسعة للحفاظ على وحدة البلاد وإضفاء المشروعية الدستورية على من يحكمونها بإجراء الانتخابات العامة شريطة مشاركة ٥٠% +١ ممن يخول لهم القانون حق التصويت.وفي غياب ذلك، بعد مضي خمس سنوات من الفشل والتدمير الممنهج، فالمتوقع أن تتفاقم مثل هذه المشاكسات، ويتعاظم معها النزوع للإنفصال الجهوي والإقليمي، سواء في الشرق أو في دارفور أو جنوب كردفان أو حتى كيان الشمال.السؤال هو: ما الذي يمنع رئيس مجلس السيادة من إعلان انتخابات شاملة تفرض بالسلطة الواقعية المقررة بوضع اليد، وبدليل قبول غالبية أهل السودان بها، وبموجب السوابق الدولية وقوانين الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي وحقوق الإنسان، حتى يقرر فيها الشعب السوداني، الذي هو صاحب السيادة الأصيلة والحصرية، وهو من يحق له تكليف من يتقلدها بإسمه، عبر تسمية وانتخاب نوابه للبرلمان لمنحهم المشروعية لسن القوانين التي تلزم الجميع؟الممارسة الديمقراطية في إدارة النظم السياسية مقامها من حيث الإنفاذ لمن يتقلد سلطة الحكم، مثل الحدود الشرعية، فتحتاج لقوة تنفيذية عازمة وراغبة لإمضائها، ولإجراءات وازعة ورادعة، إذ أنها لا ولن تتم بالتراضي الشامل، ولا بالتميع التنفيذي، ولا بالتساهل الإداري. الديمقراطية تتم في كل العالم بالنصف من الناخبين زائد صوت واحد لترجيح الشخص أو القائمة الفائزة التي تحظى بمشروعية الحكم.لا يوجد في الديمقراطية، ولا في تاريخ الشعوب، ولا في الرسالات الإلهية، من لدن الرسل أولي العزم كنوح وإيراهيم وموسى وعيسى وحتى محمد، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين ، من حقق وهم التوافق المزعوم بين كافة المكونات السياسية، او الاجتماعية أو الثقافية، كالذي يغرد به البعض كخيال توهمي، وخيار نفسي أقرب للدراما الساذجة، ويوتوبيا الأفيون، وكوميديا اللامعقول.فالله خلق البشر مختلفين، ولا يزالون، ولو أنفق من ينفق ملء الأرض ذهبا لا يوفق بينهم ولا يؤلف بين قلوبهم. هذه هي الحقيقة الراسخة التي أكدها القران قبل خمسة عشر قرنا.كل الدول الجادة والراسخة في الممارسة الديمقراطية وفي إدارة الحكم، تعقد انتخاباتها دوريا لتحديد من يحكمها، ولو اقتضى الأمر إجراءها كل ٦ أشهر حتّى تصل للوفاق المشروع، وعبر الرجوع للشعب في كل منعطف.فلماذا يريد البعض أن ينفذ عبر هذا التعطيل أجندته المخبوءة ليكون السودان استثناءا ليدمر نفسه بنفسه؟اسرائيل وكندا وإيطاليا ولبنان وماليزيا وغيرها تجري الانتخابات لاختيار ممثليها في البرلمان، ولو أدى ذلك لانعقادها كل ٦ اشهر، حال تعذر الوفاق consensus بين كتلها السياسية، والعالم كله ينظر لذلك ويحترمه. فلماذ يصر البعض على توافق أهل السودان الخيالي دون انتخابات ولا إجماع ولا شورى ولا استفتاء عام، فقط ليجر السودان لمستنقع الخلاف الناري والدموي، وانتاج سيناريوهات غريبة وشاذة، مثل ما يمكن أن يتفجر معه الواقع الفوضوي والمسيئ كالذي يجري في مروي؟نفس هذا المسلسل الذي يدور في مروي اليوم حدث في الأبيض أيام ولاية مولانا أحمد هرون على شمال كردفان، فتدخلت رئاسة الجمهورية حينئذ بصرامة وحزم لفض النزاع وإخراج تلكم القوات من شمال كردفان. وحسب البعض أن المسرحية قد انتهت.السودان اليوم يحتاج لتطبيق نظام فيدرالي حقيقي، بحيث يكون فيه لكل ولاية قواتها العسكرية الخاصة التي تحمي حدودها، ويمكن تسميتها بالحرس الوطني، ويكون لها شرطه ولائية لحماية مواطنيها وإنفاذ حكم القانون، كما يكون لها حكومة منتخبة من مواطنيها، ولها مجلس تشريعي منتخب لوضع قوانينها وهو الذي ينتخب قضاة المحكمة الولائية العليا لإصدار الأحكام. بهذا المفهوم سيقوم الجيش الوطني بأداء مهامه المنصوص عليها وفق الدستور في حماية حدود البلاد وحماية الدستور، والدفاع عن التراب الوطني، وضمان الاستقلال السياسي للبلاد، وحماية النظام الدستوري الشرعي القائم، ووقف التسلط القهري، أو استلاب السلطة بالقوة المسلحة، أو احداث الفوضى الخلاقة. كما يخول الدستور الجيش الوطني بالتدخل في حالات الحاجة الماسة لفض المنازعات المسلحة بين الولايات، كما يمكنه التدخل في حالات الكوارث الكبرى بأمر رئيس الدولة. هذا هو منطق وروح الدستور، وهذا هو العرف الدولي، وتلكم التجارب المستفادة.فبدون هذا المفهوم الهيكلي لبناء الدولة، سيظل السودان دولة فاشلة بإمتياز، وعبئا ثقيلا على الجميع، كل هم من يتسلط عليه استلابا استجلاب الإغاثات، واستبطان الرؤى الغريبة والشاذة، وادارة الدولة عبر فرض الرسوم والإتاوات على الشعب المغلوب بالضجر والقهر، وتظل البلاد معملا لانتاج مسلسلات الفشل المستدام في إدارة الدولة، وفي استيلاد واستنساخ النخب الفاشلة، المستلبة الهوية، والرؤية، والإرادة القومية، والمفتقرة للقيم الوطنية، فتتوسع حينها دائرة تعظيم الذات المتسلطة بين هذه النخب الفاشلة، فتتفنن في صناعة وانتاج الفتن والمشاكسات، وخلق النكثات، ثم انتاج الانقلابات عسكريها ومدنيها..فهل يحقق المجلس السيادي المشروعية الدستورية المفقودة والمرغوبة وطنيا من غالب أهل السودان، فيرد أمانة التكليف والسيادة الوطنية للشعب الذي يملكها حصريا وإخراج البلاد من مستنقع الفشل التراكمي الآسن؟؟

السفير د حسن عيسى الطالب

التعليقات مغلقة.